ولكن هذا الإشراف والتنظيم والرقابة، مع اعتبارها شروطاً ضرورية بقدر ما يتضخم الإمكان، لا تحقق على أية حال النجاح المضمون للاقتصاد إن افتقد إلى عامل نفسي أو روحي ينهض به على أنه التجسيم لإرادة حضارية.
ومن هنا تبدو لنا أهمية كتاب (جون نيف) في خاتمته، حيث يقول:
" إن اقتصاد الوفرة الذي يقاس بالكميات، والذي بدأ يسود خلال القرن التاسع عشر، في أجزاء من أوربا؛ الامبراطورية البريطانية وأمريكا، لم يكن، كما يعتقد علماء العصر الحديث عامة، السببَ الأساسي للتقدم الروحي والأدبي الذي حصل في الأزمنة الحديثة، إذ يبدو أن التقدم الروحي والأدبي الذي بدأ أثناء احتدام الحروب الدينية كان عاملاً رئيسياً في نشوء اقتصاد الوفرة هذا، إذ كان يتعذر حصول مثل هذا التقدم لولا المساعدة الإلهية التي منحت للروح، لكن كان لا بد لإرادة الإنسان، هذه الإرادة الحرة، من أن تطلب هذه المساعدة، وأن تجندها طوعا لمواجهة المسائل في تلك الميادين من التجربة الدنيوية- أي ميادين الدين والفن والأخلاق- التي أثبتت الأساليب العلمية الجديدة عجزها فيها. وسعى أجدادنا إبان الثورة العلمية التي بدأت عند ملتقى القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى الوصول بالإنسان كله إلى الكمال، لا إلى مجرد تحسين معرفته عن العالمين المادي والحياتي، ولو أن هؤلاء الأجداد ركزوا جهودهم بلا استثناء على تلك الجوانب من الطبيعة البشرية التي تقع في مجال التفكير العلمي والاقتصادي الجديد، لوجدت الأجيال التي ولدت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أمر تأسيس اقتصاد الوفرة ( ... ) أصعب حتى مما كان قد حدث بالفعل ... ".
إنني تعمدت اقتطاف هذا المقطع من خاتمة كتاب (جون نيف)، لأنه يدل بأوضح ما يمكن التعبير به على الجذور البعيدة لا يسميه اقتصاد الوفرة، دون أن نبيح لأنفسنا سوى تعديل بسيط في المصطلحات لمراعاة وحدة البحث.