التحديث ومن كان لا يحصل منه ذلك - أنهم جميعًا كانوا أحرص الناس على التمسك بالسنة وعلى تبليغها والتحدث بها إذا لم يطرأ شيء من الموانع التي سنذكرها. وعلى الاحتجاج بها على الغير. وعلى الاقتناع بها إذا احتج بها الغير عادلين عن آرائهم حينئذ. وعلى الرجوع إليها فيما يطرأ بها من الحوادث وعلى حث غيرهم على العمل بها كل ذلك بدون نكير.
فهذا أبو بكر يحتج بحديث «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» على الأنصار يوم السقيفة فيقتنعون به. ويحتج بحديث «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» على فاطمة فتقتنع به. ويقضي بحديث ميراث الجدة الذي رواه المغيرة بعد أن تأكد ثبوته برواية محمد بن مسلمة له. ويحتج عليه عمر بحديث «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» فيرد عليه بقوله في آخر الحديث: «إِلاَّ بِحَقِّهَا».
وهذا عمر يقول - وهو يقبل الحجر الأسود -: « ... وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ». ويتحدث على ملأ من الناس فوق منبر رسول الله - بحديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». ويقتنع بحديث الاستئذان الذي يرويه له أبو موسى بعد أن شهد بصحته أبو سعيد. وهو الناشد للناس في غير موقف - بل في مواقف شَتَّى: من عنده علم عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كذا. (نحو ما ذكره مالك وغيره عنه في توريث المرأة من دية زوجها وفي الجنين يسقط عند ضرب بطن أمه وغير ذلك مما تقدم). وهو الكاتب إلى عُمَّالِهِ:«تَعَلَّمُوا [الْفَرَائِضَ] وَالسُّنَّةَ وَاللَّحْنَ كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ». وهو القائل:«إِيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا». والقائل:«خَيْرُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». والقائل:«سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».