يقول:«إِنِّي لأَمُرُّ بِالْبَقِيعِ فَأَسُدُّ آذَانِي مَخَافَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الخَنَا. فَوَاللَّهِ مَا دَخَلَ أُذُنِي شَيْءٌ قَطُّ فَنَسِيتُهُ» وقد جاء نحوه عن الشعبي.
وبالجملة: فالحفظ والكتابة يتناوبان في المحافظة على الشيء. وفي الغالب يضعف أحدهما إذا قوي الآخر. ومن هنا نفهم سَبَبًا من الأسباب التي حملت الصحابة على حث تلاميذهم على الحفظ ونهيهم إياهم عن الكتابة، وذلك لأنهم كانوا يرون أن الاعتماد على الكتابة يضعف فيهم ملكة الحفظ. وهي ملكة قد طبعوا عليها , والنفس تميل إلى ما طبعت عليه وتكره ما يخالفه ويضعفه.
وبيان ذلك: أن الحفظ في الغالب لا يكون إلا مع الفهم وإدراك المعنى والتحقق منه، حتى يستعين بذلك على عدم نسيان اللفظ ثم إنه يحمل المرء على مراجعة ما حفظه واستذكاره آنًا بَعْدَ آنٍ حتى يأمن من زواله. ثم إن محفوظه يكون معه في صدره في أي وقت وفي أي مكان، فيرجع إليه في جميع الأحوال عند الحاجة ولا يكلفه ذلك الحمل مؤونة ولا مشقة. بخلاف الكتابة: فإنها كثيرا ما تكون بدون فهم المعنى عاجلا وآجلا. أو سببا في عدم الفهم في الحال اعتمادًا على ما سوف يفهم فيما بعد. وقد تضيع عليه الفرصة في المستقبل لضياع المكتوب أو عدم وجوده معه عند الحاجة إليه، أو عدم وجود من يفهمه المكتوب ويشرحه له. ثم إن الكاتب لا يجد في الغالب باعثًا يدعوه إلى مراجعة ما كتبه. ثم إنه يجد مشقة ومؤونة في حمل المكتوب معه في كل وقت ومكان. وبذلك كله يكون نقلة العلم جُهَّالاً. مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا. وأعظم به سببًا في ضياع العلم. وانتشار الجهل.