بمراحل. لأنها تعتمد على هذه الحواس في حياتها أكثر من اعتماد الإنسان عليها.
ولقد ساعد العرب على تقوية ملكة الحفظ عندهم طبيعة جوهم وبساطة معيشتهم، وَحِدَّةَ ذكائهم. وقوة فهمهم لما يحدث بينهم، وَسَعَةَ خِبْرَتِهِمْ بأساليب لسانهم وطرق بيانهم.
...
وَخُصُوصًا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ مِنْهُمْ:
وهذه حالة العرب في جاهليتهم. فما بالك بالصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - الذين قَيَّضَهُمْ اللهُ لحفظ الشرع وصيانته وحمله وتبليغه لمن بعدهم. وملأ قلوبهم بالإيمان والتقوى والرهبة والخوف: أن يبلغوا من بعدهم شيئًا من أحكام الدين على خلاف ما سمعوا ورأوا من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن غير أن يتأكدوا ويتثبتوا أنه هو الحق من ربهم ومن رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والذين حصلت لهم بركة صحبة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتتلمذوا له وتخرجوا على يديه. واستنارت قلوبهم بنوره، وتأدبوا بأدبه واهتدوا بهديه واستنوا بسنته. ودعا لهم بالحفظ والعلم والفقه كما ورد في أبي هريرة وابن عباس.
وقريب من الصحابة في هذا المقام: من اجتمع بهم وشاهد أحوالهم واتبع خطاهم واقتفى آثارهم من التابعين، كل ذلك يكاد ينفي عن سامع الحديث من أحدهم توهم خطأ أو نسيان أو تبديل أو اختلاق.
والأخبار التي تدل على قوة الحفظ عند العرب كثيرة يعلمها الخاصة والعامة.
ولقد كان كثير من الصحابة والتابعين مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك كابن عباس والشعبي وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِي وَقَتَادَةَ. فكان أحدهم يجتزئ بالسمعة، ألا ترى ما جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي أولها: