أمي ولا يتكرر ذلك منه فيما بعد. بخلاف القرآن: فإن الآية منه أو السورة كان يقرأها النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمام أقوام مختلفة منهم الكاتبون ومنهم الأميون. ويتكرر ذلك منه وفي أزمنة وأمكنة مختلفة بعبارة واحدة لا تغيير فيها ولا تبديل. فمن ذلك كله يتأتى وجود جميع طرق النقل فيه.
فإن قال قائل: لو كان الأمر قد اقتصر على أن لا يأمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة السُنَّةِ لكان فيما ذكرته مقنع لنا ومدفع لشبهتنا. لكن الأمر لم يقتصر على ذلك. بل تعداه إلى نهيه عن كتابتها وأمره بمحو ما كتب منها. وذلك يدلنا على رغبته في عدم نقلها إلى من بعده، وتلك الرغبة تستلزم عدم حُجِّيَّتِهَا، إذ لو كانت حجة لما منع من نقلها بأي طريق من طرق النقل.
قلت: لا يجوز بأي حال أن يكون نهيه عن الكتابة دليلاً على رغبته في عدم نقلها وعلى عدم حُجِّيَّتِهَا. لما بيناه لك فيما سبق من أن الكتابة ليست من لوازم الحُجِّيَّةِ. ومن أنها لا تفيد القطع ومن أنه ليس من الضروري في الحُجَّةِ أن تثبت بطريق قطعي على تسليم أن الكتابة تفيد القطع. وكيف نهيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دليلا على عدم الحُجِّيَّةِ والنبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقب هذا النهي مباشرة يأمر أصحابه بالتحديث عنه الذي هو أبلغ في النقل وأقوى على ما علمت. وفي الوقت نفسه يتوعد من يكذب عليه متعمدًا أشد الوعيد كما في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه " مسلم ". ويقول فيما رواه " البخاري " و " مسلم " عن أبي بكرة: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ» , وفيما رواه أحمد عن زيد بن ثابت:«نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ». وفيما رواه الترمذي عن ابن مسعود:«نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا [سَمِعَ]، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ». وفيما رواه أحمد عن جُبَيْرِ