فلذلك وقع الخلاف فيها دونه، وإن كان الصحيح جواز الاعتماد عليها بالشروط التي صرح ببعضها ابن حجر.
...
الكتابة دون الحفظ قوة خصوصا من العرب ومن على شاكلتهم:
وذلك أنا نعلم: أن العرب كانوا أمة أمية، يندر فيهم من يعرف الكتابة، ومن يعرفها منهم قد لا يتقنها، فيتطرق إلى مكتوبه احتمال الخطأ احتمالا قويا، وإذا أتقنها الكاتب فقد لا يتقن قراءتها القارئ منهم: فيقع في اللبس والخطأ، خُصُوصًا قبل وضع قواعد النقط والشكل والتمييز بين الحروف المعجمة والمهملة، الذي لم يحدث قبل عهد عبد الملك (١) بن مروان، ولذلك كان جل اعتمادهم في تورايخهم وأخبارهم ومعاوضاتهم وسائر أحوالهم على الحفظ حتى قويت هذه الملكة عندهم، وندر أن يقع منهم خطأ أو نسيان لشيء مما حفظوه. بخلاف من يعتمد على الكتابة من الأمم المتعلمة المتمرنة عليها: فإنه تضعف فيهم ملكة الحفظ ويكثر عندهم الخطأ والنسيان لما حفظوه، وهذه الحال مشاهدة فيما بيننا: فإنا نجد الأعمى أقوى حفظا لما يسمعه من البصير، لأنه جعل كل اعتماده على ملكة الحفظ. بخلاف البصير فإنه يعتمد على الكتاب وأنه سينظر فيه عند الحاجة، وكذلك التاجر الأمي قد يعقد من الصفقات في اليوم الواحد نحو المائة ومع ذلك نجده يحفظ جميع ماله عند الغير وما عليه له بدون ما خطأ أو نسيان لدانق واحد. بخلاف التاجر المتعلم الذي اتخذ الدفاتر في متجره واعتمد عليها في معرفة الصفقات وما له وما عليه: فإنا نجده سريع النسيان لما لم يكتبه كثير الخطأ فيه. ونظير ذلك حاسة السمع عند الأعمى: فإنها أقوى منها بكثير عند البصير. لأن الأول لما فقد بصره استعمل سمعه في إدراك أشياء كثيرة كان يميزها بالبصر لو كان بصيرًا. فقوي عنده السمع وكذلك نجد حواس الحيوانات المفترسة من شم وسمع وبصر أقوى منها في الإنسان
(١) انظر " الوسيط ": ص ١٣٣، و " تاريخ القرآن ": ص ٦٧، ٦٨.