للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم -]

ولقائل أن يقول: إن كثيرين قد يزهدون بالمال في سبيل الرفعة عند الناس، فما أعظمها من لذة أن يشير الناس إليه ببنانهم، وأن يستبقوا إلى إجلال الزاهد وخدمته، فيكون له في ذلك ما يدعوه على الصبر على الحرمان والفاقة.

وهذا كله صحيح، فتلك نفوس رتعت بالكبر، وأحبت من الدنيا العلو فيها.

أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جمع إلى الزهد التواضع للناس، ولم يمنعه من ذلك جلالة قدره عند الله ورفعة مكانته عند مولاه وعند المسلمين.

ولنفتح هذ االسفر الخالد، ونقرأ فيه ما يحكيه لنا أبو رفاعة، فقد دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: يا رسول الله، رجل غريب، جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه.

قال أبو رفاعة: فأقبل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك خطبته، حتى انتهى إلي، فأُتي بكرسي حسِبتُ قوائمَه حديداً قال: فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها. (١)

قال النووي: " وفيه تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفقه بالمسلمين, وشفقتُه عليهم, وخَفْضُ جناحِه لهم". (٢)

وحين تلاحقه - صلى الله عليه وسلم - نظرات الإعجاب من أصحابه، فتنساب على ألسنتهم عبارات الثناء الممزوجة بالحب، حينها كان - صلى الله عليه وسلم - ينهاهم عن إطرائه والمبالغة في مدحه، فما فتئ لسانه يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه)). (٣)

ودخل عليه رجل فقال: يا سيدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بنُ عبدِ الله، عبدُ الله ورسولُه، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)). (٤)


(١) رواه مسلم ح (٨٧٦).
(٢) شرح النووي على صحيح مسلم (٦/ ١٦٥).
(٣) رواه البخاري ح (٣٤٤٥).
(٤) رواه أحمد ح (١٢١٤١).

<<  <   >  >>