للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولقد خيره ربه بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملِكاً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى عن ملك نزل إليه، فقال: يا محمد، أرسلني إليك ربُك قال: أفملِكاً نبياً يجعلُك أو عبداً رسولاً؟ فقال جبريل: تواضع لربك يا محمد. فقال عليه الصلاة والسلام: ((بل عبداً رسولاً)). (١)

[تعبده لربه وخوفه منه]

وإن من دلائل نبوته وأمارات صدقه - صلى الله عليه وسلم - ما رأينا من تعبده لله تعالى وخشيته منه، ولو كان دعياً لما تعبد لله، ولما أتعب نفسه، ولا ألزمها ضروب العبادة التي قرحت رجليه، بل لكان صنع ما يصنعه سائر الأدعياء من مقارفة الشهوات واستحلال المحرمات، فكل ما اشتهى الدعي أمراً صيره ديناً وشرعة.

ومن ذلك ما فعله مسيلمة الكذاب، فقد أحل لأتباعه الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، فتكاليف الشريعة لا يطيقها الأدعياء، لذا سرعان ما يتخلصون منها.

أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان أعبدَ الناس لله وأخوفَهم منه بما عرف من عظمته وقوته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي)). (٢)

وشواهد خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله وتعبده لله كثيرة، منها أن صاحبه أبا بكر رأى شيباً في شعره، فقال: يا رسول الله قد شِبت؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت)). (٣)

قال الطيبي: "وذلك لما في هذه السور من أهوال يوم القيامة والمَثُلات النوازل بالأمم الماضية: أخذ مني مأخذه، حتى شبتُ قبل أوانه". (٤) فالذي شيب رسول الله ما قرأه في هذه السور من الأهوال التي يرهبها الأتقياء العارفون بربهم، الذين قدروه حق قدره.

وتصف أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وجَلَه - صلى الله عليه وسلم - من ربه، فتقول: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواتِه، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف


(١) رواه أحمد ح (٧١٢٠)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (١٠٠٢).
(٢) رواه مسلم ح (١٨٦٨).
(٣) رواه الترمذي ح (٣٢٩٧)، وصححه الألباني ح (٢٦٢٧)
(٤) تحفة الأحوذي (٩/ ١٣١).

<<  <   >  >>