للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقد جهزت الْمَسْأَلَة إِلَيْك ووجهت أملي فِي الْجَواب عَنْهَا نَحْوك. وَأَنت المدخر لغريب الْعلم ومكنون الْحِكْمَة. فَإِن تفضلت بِالْجَوَابِ وَإِلَّا عرضت عَلَيْك مَا قلت للسَّائِل وَرويت مَا دَار بيني وَبَين المجادل فَإِن كَانَ سديداً عرفتنيه وَإِن كَانَ ضَعِيفا نصحتني فِيهِ. فالعلم بعيد السَّاحِل عميق الْغَوْر شَدِيد الموج. وَلَوْلَا فضل الله الْعَظِيم على هَذَا الْخلق الضَّعِيف لما وقف على شَيْء وَلَا نظر فِي شَيْء لكنه لطيف بعباده رءوف يبتدىء بِالنعْمَةِ قبل الْمَسْأَلَة وبالخير قبل التَّعَرُّض. الْجَواب: قَالَ أَبُو عَليّ مسكويه - رَحمَه الله: لَيْسَ يجوز أَن ترد الشَّرِيعَة من قبل الله - تَعَالَى - بِمَا يأباه الْعقل وَيُخَالِفهُ وَلَكِن الشاك فِي هَذِه الْمَوَاضِع لَا يعرف شَرَائِط الْعقل وَمَا يأباه. فَهُوَ - أبدا - يخلطه بالعادات ويظن أَن تأبى الطباع من شَيْء هُوَ مُخَالفَة الْعقل. وَقد سَمِعت كثيرا من النَّاس يتشككون بِهَذِهِ الشكوك وَحَضَرت خصوماتهم وجدالهم فَلم يتعدوا مَا ذكرته. وَيَنْبَغِي أَن نوطىء للجواب تَوْطِئَة من كَلَام نبين فِيهِ الْفرق بَين مَا يأباه الْعقل وَبَين مَا يأباه الطَّبْع ويتكرهه الْإِنْسَان بِالْعَادَةِ فَنَقُول: إِن الْعقل إِذا أَبى شَيْئا فَهُوَ أبدى الإباء لَهُ لَا يجوز أَن يتَغَيَّر فِي وَقت وَلَا يصير بِغَيْر تِلْكَ الْحَال. وَهَكَذَا جَمِيع مَا يستحسنه الْعقل أَو يستقبحه. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن جَمِيع قضايا الْعقل هِيَ أبدية وَاجِبَة على حَال وَاحِدَة أزلية لَا يجوز أَن يتَغَيَّر عَن حَاله. وَهَذَا أَمر مُسلم غير مَدْفُوع وَلَا مَشْكُوك فِيهِ. فاما أَمر الطَّبْع وَالْعَادَة فقد يتَغَيَّر بِتَغَيُّر الْأَحْوَال والأسباب وَالزَّمَان والعادات. وأعني بِقَوْلِي الطَّبْع طبع الْحَيَوَان وَالْإِنْسَان لَا الطبيعة الْمُطلقَة الأولى. وَذَاكَ أَن اسْم الطبيعة مُشْتَرك. فقد بَينا مَا أردنَا بالطبع. وَإِذا كَانَ ذَلِك بَينا

<<  <   >  >>