أن الإيمان بالغيب - في الجملة والأصل - فطريٌّ في النفوس البشرية كلها، وكل عاقلٍ مهما بلغت بدائيته يؤمن بالغيب، ويعلم ذلك في نفسه اضطرارًا، ولكن من البشر من يكابر بعد التلقين والتربية الضالة، مع أنه مهما بلغت به المكابرة إنما ينكر بعض مسائل الغيب لا كلها، وهذا هو المعروف عن الملحدين قاطبةً؛ قديمهم وحديثهم (١).
فإذا ورد النص بأمورٍ غيبيةٍ، كان هذا بالنسبة للعقل من قبيل تفصيل ما أجمل، لا أكثر، فإذا انضم إلى ذلك شهادة العقل وتسليمه المطلق سلفًا بصدق النص وصحته، لم يبق هنالك أدنى شبهةٍ للتعارض، ومن ثَمَّ فلا حاجة للتقسيم بهذا الاعتبار، ولا لتضخيم شيءٍ من جانبٍ، وإهدار قيمته في الجانب الآخر.
وعبارة:«إن العقل لا يحكم باستحالة شيءٍ من الغيبيات الثابتة بالنص» هي عند السلف قضيةٌ بديهيةٌ، ولهذا لم يحتاجوا أن يذكروها عند كل مسألة، فضلًا على أن يجعلوها شرطًا في إثبات ما أخبر به الله ورسوله، وإذا ذكروها فمن قبيل تعاضد الأدلة، وتزييف شبهات الملحدين.
أما الأشاعرة؛ فإذا قالوا:«إن العقل لا يحكم باستحالة كذا وكذا ..» مما أخبر به الشرع. فهم لا يقولونه تقريرا لبداهة القضية؛ بل تأصيلًا لتحكيم العقل، واشتراطًا لوجوب التصديق، وهذا ما ينقلنا إلى القضية الثانية وهي:
(١) وهذا ما نص عليه شيخ الإسلام في حديثه عن (السمنية)، وهم الطائفة التي تقول كتب الفرق: إنهم ينكرون ما عدا الحواس. انظر التسعينية (ص٣٦).