القرآن)، ووقف السلاطين والوزراء والجند والجلادون مع الرأي الثاني، ووقف أحمد بن حنبل والحق مع الأول.
وكان موقف الإمام الثابت خلال المحنة كلها هو قوله:«أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله». فإن جاءوا بظواهر من القرآن قال:«أعطوني شيئًا من السنة، وأقوال الصحابة». فكانت السياط تلهب ظهره حتى يغمى عليه، فإذا أفاق امتحنوه فأعاد العبارة نفسها، فيجلدونه حتى يغمى عليه ثانيةً، وهكذا ... وصمد على هذا الموقف حتى اندحرت جيوش البدعة، وتكسرت راياتها، واستيقظت الأمة من جديد لتعرف أصل المعركة ودوافعها.
إن الإمام أحمد رحمه الله كان على يقينٍ تامٍّ بأن القضية ليست كلمة اعتراف يقولها المرء معللًا في نفسه بدواعي الإكراه، وتحميل النفس ما لا يطاق من العذاب، وينتهي الأمر؛ ولكن المسألة أكبر من كل قضايا الخلاف الفكري في التاريخ، إنها مسألة: أيهما المتبع وأيهما مصدر التلقي، الوحي أم غيره؟ ولا بد للأمة أن تعلم أن أصل الخلاف هو هذا، وأن التسليم بقضيةٍ واحدةٍ لغير الوحي يؤذن بإقصاء هذا المصدر كله.
وإزاء هذه المسألة هانت نفس أحمد بن حنبل عليه وتهون كل النفوس، وهذا النوع الفريد من المناظرة هو أحسن أنواع المناظرات وأفضلها (١)، ومن أراد إفحام أي زائغ أو مبتدع فليجعل هذا هو الأصل والقاعدة، ثم ليناظرهم بعد ذلك بما يشاء، كما فعل الإمام نفسه في مجلس الخليفة وفي كتبه.
(١) انظر درء تعارض العقل والنقل ((١) / (٢٨٨))، حيث علل شيخ الإسلام لأفضلية هذا النوع، وأنه ربطٌ بأصل المشكلة.