أمره وتمسك بقصوى العدوة وجعل يطل إطلال اليَرْبُوع من تلك الربوة، وبادر المشيخة بين يدي رجوعهم إعلام القوم، وتبرءوا من الأمر وأفردوا عروسَهم بهُجْر القول، وخزرت إليهم العيون وتَحلَّبَت الشفاه، فرجعوا أدراجهم، وبدا للناس في أمرهم فاتبعوهم، وظهروا لهم على ظَهْرٍ وأسباب سفرية رجعوا بها رجوع الجيوش الظافرة، والعساكر الغانمة يتحدثون بشدهم واستبصارهم في ركضهم. ولليلة الثالثة من ليلة مُنْفَضِّهِم، وهي ليلة الحادي عشر من شهر صفر ورد النذير العريان مخبراً باستجاشتهم مَنْ بأحواز سلا من الفرسان المرتبين وهشهم بعصى الزائد على رِجْل الدَّبا من الرَّجْل، فماج الناس بعضهم في بعض، لفيفاً عدموا الرؤساء وهمجاً فقدوا الرعاة، ثم تواتر الخبر ووقع النفير، فتبادر الناس بجملتهم تيار الوهْل، وأجهضت الحوامل، وعلا للنساء الصراخ وكثر منهن ببنيهن والرُّوقة من أزواجهن الغبطة والضنانة والتشبث بالشعور واللحى والقبض على الأطواق والخُصى، فاختلط الصراخ وعلا العويل تقية من معرة الحرب وصوناً لهم تحت الأغلاق لعدم مرانهم على المدافعة، وإغراقهم في الحضارة وفقدانهم السلاح، إنما هم على الأيام حَلَجَة قطن ومَوَاشُط كتان وأبطال مقاعدِ حياكة وماعز مَغْرم، سواسية كأسنان المشط لا يوجبون مزية ولا يشعرون برجحان كفة.
وبرزت إلى ما خلف السور حامية فرسان ساكَنوا الدهماء وإن كانوا من سِنخِ العدو، زعانف من بني يَرْنيان وغيرهم، سرحهم رث وكُراعهم هزيل، كشفوا الثنية، ثم عادوا وسرعان خيل العدو تطاردهم، ثم أطل القوم في لمة من الفرسان وعدد جمّ من رجل الأحواز فكانت بينهم وبين القوم محاولات. وتمرَّس بهم كثير من الغرباء المستخدمين في الأعمال من قبيل غمارة ولا سلاح إلا الجنْدَل ولا مجن إلا الأسمال - وغلَّ الله أيدي من تنخله اللفيف من رماة الأسطول وسواه فقل الانتفاع بهم يومئذٍ فانصرفوا بعد أن زالت الشمس وقد بَلَوْا من البلدة غير ما عهدوه من شِمَاسٍ واقْشِعرارٍ ونبوٍّ عن الملامسة. ثم وجدت الخرقاء صوفاً فجعل أهلها ملازمة الأسوار والخُفُوف إلى الهيعة واحتمال السلاح عُرساً، فاقتسموا الأقطار، وأقعدوا صراديك مشيختهم بدهاليز الأبواب وعلقوا السلاح وتناغوا في اتخاذ أطعمة السمر واستدعاء المغنين وإيقاد المشاعل، وحصنوا ثلم الأسوار ومدوا الخشب مُعْرَضَةً في أفضية الأبواب، وغشَّوْا أَعْرَاهَا بجلود ذبائح البقر.