وطُيرت الأنباء إلى عرب تامسنا وحِلَّةِ عميدهم، واستدعيت منهم النصرة وقد كان جيش مراكش نَهَدَ لنظر كبير الصقع عامر بن محمد بن علي، فاحتل ضفة وادي أم ربيع يَسْبِر الأعماق، ويوازن الأحوال ويعمل ميزان الترجيح، فبعث لمة من فرسان العرب إلى إصراخهم، وصلوا وخيموا بشط الوادي من جهة قصدهم، فنشق الناس ريح الانتياش على ضعف النصير وخمول المصرخ وأنسوا بجناب الأمنة. وعلى ذلك فما زالت رسل الوعيد مترددة والنفوس لعودتهم متوقعة، وفسدت طريق مكناسة، وسدت السبل ما بين دار الملك ومدينة سلا، فلا يلخص بها الطيف ولا ينفد الفكر، وربما اتحمته طائفة تدل بوسيلة دين أو دنيا فآوا بادياً بوارهم، عاريةً عوراتهم. وفي ذلك صدرت عني مقطوعة في غرض التورية استملحها الناس يومئذٍ وهي قولي:
مكناسةٌ حُشِرَتْ بها زُمَرُ العِدا ... فمدى بريدٍ فيه ألفُ مَريدِ
من واصل للجوع لا لرياضة ... أو لابس للصوف غير مُريد
فإذا سلكت طريقها متصوفاً ... فابْنِ السلوك بها على التجريد
واستمرت الحال إلى أخريات شهر صفر من عام التاريخ وكان الأمر ما يأتي به الذكر إن شاء الله..
واتصل النبأ باحتلال الأمير المستدعى من ملك قشتالة مدينة سبتة واستقراره بها في العشر الأول لصفر من العام، بعد مراوضة من ملك الروم ومحاورة وضنانة وتشطط قطع السلطان المذكور فيه أطماعه عن المعيَّنات وتضمن له ما دونها، فاشرأبت الأعناق وسمت الأحداق ثم وردت مخاطباته مع أقوام من الساسانية على رؤساء الجيش المراكشي مستنجدة محركة باسطة للآمال متكفلة بحسن القرض بعيدة الشأو في ميدان التجلة والإطراء، فزال الشك وتمحضت الوجهة وانطلقت الخُطا، وأعمل السير على تؤدة كبيرة، وتثاقل واستبراء لقروء الفتنة، فكان كما قال الأول:
إن القُباعَ سار سيراً نُكْرَاً ... يسير يوماً ويقيم شهراً
ديدن الجيوش التي لم تزح عللُها، ولا اصطفيت نقاوتُها ولا هُذِّبَ بالعرض ديوانها، وأحوال الدنيا متقاربة وأحوال الطالب والمطلوب في الضعف متناسبة، ولله أمر هو بالغه سبحانه.
ولما قاربوا مدينة سلا، وردت الكتب السلطانية مخبرة باستقرار ركابه بظاهر مدينة فاس أنفاً من دخولها قيل لعزم وإزماع وقيل لاختيار معدّل، فخيم لجراء بعض ذك بالهضبة المنسوبة إلى العرايس. إذ كان الوزير مُستَدعيه لما تحقق نبأ وصوله إلى سبتة، وجه إليه مِقْنَباً من خيل الروم وكتيبة خشناء من غيرهم فيها الكثير من الناشبة والرَّجْل الأندلسيين. ونوَّه بموكبه فأَصْحَبها صاحب العلامة الباهر الرواء الميمون النقيبة المارن على الألقاب، البارع الأدوات، المهديّ فأل الرضوان في عقد البيعة، أبو القاسم بن رضوان، وصاحب الأشغال وديوان الجيش الشيخ الوقور الحسن السمت، المُدْلي إلى أبوابهم بالقديم، المرموق بعين التجلة محمد بن أبي القاسم بن أبي مدين العثماني، فاتصلوا به، وقر بين أيديهم من كان قد حاصر قصر كتامة من حزب ضدهم، فالتف بهم. وعاد جميعهم إلى دار الملك لم يعترض طريقهم معترض ولا عاقهم عنه عائق. وبرز الوزير فأخذ على الناس بيعته، وسلم إليه أمانته وتولى خدمته، ووقع الرأي على بث العطاء بالمخيم المذكور واعتراض الجيش، والنهود لمدافعة الأمير الآخذ بمخنق الحضرة وقد أقعى برباط تيزي يصابر انسلاخ زمن القُر. وضبط ابن أخيه مدينة مكناسة، فكان أملك بها، ثم أمده بالأخ عبد المؤمن الصدَّقْ عند الحفيظة، الثبت الموقف في ميدان المدافعة وأضحت الحضرة بين لحْيَيْ أسد الضيق واليأس في أمر مَريج وكان من الأمر ما يذكر.