فلَقيِتُ بين يَديكَ حُلوَ عَطائِهِ ... ولَقيتَ بين يدَيَّ مُرَّ سُؤَالِه
وإذا امرُؤٌ أَسْدَي إلىَّ صنيعةً ... من جاهِهِ فكأنَّها من مالِه
فقال الرجل: أحسن والله، فقال: كذبت قبحك الله، فقال: والله لئن كان أخذ هذا المعنى وتبعته فما أحسنت، وإن كان أخذه منك. لقد أجاده فصار أولى به منك، فغضب دعبلٌ وقام.
قال أبو بكر: وشعر أبي تمام أجود، فهو مبتدئاً ومتبعاً أحق بالمعنى، ولدعبلٍ خبر في شعره هذا مشهور أذكره بسبب ما قبله.
حدثني محمد بن داود قال، حدثني يعقوب بن إسحاق الكندي قال: كانت على القاسم بن محمد الكندي وظيفة لدعبل في كل سنةٍ، فأبطأت عليه، فكلمني فأذكرته بها، فما برح حتى أخذها فقال دعبل:
إنَّ أمرأً أسْدَى إليَّ بشافعٍ
وذكر البيتين. وقد تبع البحتري أبا تمامٍ، فقال في هذا المعنى:
وعطاءٌ غيرِك إن بذْلتَ عنايةً فيِهِ عطاؤُكْ
حدثني أبو جعفر المهلبي قال، حدثني ابن مهرويه قال، حدثني عبد الله بن محمد بن جرير قال: سمعت محمد بن حازمٍ الباهلي الشاعر يصف أبا تمام، ويقدمه في الشعر والعلم والفصاحة، ويقول: ما سمعت لمتقدمٍ ولا محدثٍ بمثل ابتدائه في مرثيته:
أصمَّ بك النَّاعِي وإن كانَ أسمَعَا
ولا مثل قوله في الغزل:
ما إنْ رَأى الأقْوَامُ شَمْساً قَبْلَها ... أَفَلَتْ فَلَمْ تُعْقِبْهُمُ بظَلاَم
لو يَقْدِرُونَ مَشَوْا عَلَى وَجَنَاتِهمْ ... وعُيُونِهمْ فَضْلاً عَنِ الأقْدَامِ
حدثني سوار بن أبي شراعة قال، حدثني البحتري قال: كان أول أمري في الشعر، ونباهتي فيه، أني صرت إلى أبي تمامٍ وهو بحمص، فعرضت عليه شعري، وكان يجلس فلا يبقى شاعر إلا قصده وعرض عليه شعره، فلما سمع شعري أقبل علي وترك سائر الناس، فلما تفرقوا قال: أنت أشعر من أنشدني، فكيف حالك؟ فشكوت خلةً، فكتب لي إلى أهل معرة النعمان، وشهد لي بالحذق، وقال: امتدحهم، فصرت إليهم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أربعة آلاف درهم، فكانت أول ما أصبته.
حدثني أبو عبد الله العباس بن عبد الرحيم الألوسي قال، حدثني جماعة من أهل معرة النعمان قال: ورد علينا كتاب أبي تمامٍ للبحتري: يصل كتابي على يدي الوليد بن عبادة، وهو على بذاذته شاعر فأكرموه.
وسمعت أبا محمد عبد الله بن الحسين بن سعد يقول للبحتري، وقد اجتمعا في داره بالخلد، وعنده محمد بن يزيد النحوي، وذكروا معنىً تعاوره البحتري وأبو تمام: أنت في هذا أشعر من أبي تمام، فقال: كلا والله ذاك الرئيس الأستاذ، والله ما أكلت الخبز إلا به، فقال له محمد ابن يزيد: يا أبا الحسن، تأبى إلا شرفاً من جميع جوانبك!.
حدثني أبو عبد الله الحسين بن علي قال، قلت للبحتري: أيما أشعر، أنت أو أبو تمام؟ فقال: جيده خير من جيدي، ورديئي خير من ردئيه. قال أبو بكر: وقد صدق البحتري في هذا، جيد أبي تمام لا يتعلق به أحد في زمانه، وربما اختل لفظه قليلاً لا معناه، والبحتري لا يختل.
حدثني أبو الحسن الكاتب قال: كان إبراهيم بن الفرج البندنيجي الشاعر يجيئنا كثيراً، وكان أعلم الناس بالشعر، ويجيئنا البحتري وعلي بن العباس الرومي، وكانوا إذا ذكروا أبا تمام عظموه ورفعوا مقداره في الشعر حتى يقدموه على أكثر الشعراء، وكل يقر بأستاذيته، وأنه منه تعلم، وقال: هؤلاء أعلم أهل زمانهم بالشعر، وأشعر من بقي.
حدثني أبو الحسن علي بن محمد الأنباري قال، سمعت البحتري يقول: أنشدني أبو تمام لنفسه:
وَسَابحٍ هَطِلِ التَّعْدَاءِ هَتَّانِ ... عَلَى الجِرَاءِ أَميِنٍ غيرِ خَوَّانِ
أَظْمَى الفُصُوصِ ولم تَظْمأْ قوائمُه ... فَخَلِّ عَيْنَيَكَ فيِ ظَمْآنَ رَيَّانِ
فَلَوْ تَرَاهُ مُشِيحاً والحَصىَ زِيَمٌ ... بَيْنَ السَّنابِكِ مِن مَثْنَى وَوُحْدَانِ
أَيْقَنْتَ إنْ لَمْ تَثَبَّتْ أَنَّ حَافِرَهُمِنْ صَخْرِ تَدْمُرَ أَوْ مِنْ وَجْهِ عُثْمانِ
ثم قال لي: ما هذا من الشعر؟ قلت: لا أدري، قال: هذا المستطرد، أو قال الاستطراد، قلت: وما معنى ذلك؟ قال: يرى أنه يريد وصف الفرس، وهو يريد هجاء عثمان. فاحتذى هذا البحتري فقال في قصيدته التي مدح فيها محمد بن علي القمي ويصف الفرس أولها: