[رسالة الصولي إلى مزاحم بن فاتك]
[ما جاء في تفضيل أبي تمام]
وهو
[نسبه]
حبيب بن أوس الطائي صليبةً، ومولده بقرية يقال لها جاسم، سيمر ذكرها في أخباره إن شاء الله.
[فضله]
حدثني محمد بن يزيد بن عبد الأكبر النحوي. قال: قدم عمارة بن عقيلٍ بغداد، فاجتمع الناس إليه، وكتبوا شعره، وسمعوا منه، وعرضوا عليه الأشعار، فقال له بعضهم: هاهنا شاعر يزعم قوم أنه أشعر الناس طراً، ويزعم غيرهم ضد ذلك، فقال: أنشدوني له، فأنشدوه:
غَدتْ تستجيرُ الدمعَ خوفَ نوىَ غدِ ... وعادَ قتاداً عندَهَا كلُّ مَرْقَدِ
وأنْقَذَهَا مِنْ غَمْرَةِ الموتِ أَنَّهُ ... صُدُودُ فِراقٍ لا صُدُودُ تَعَمُّدِ
فأَجْرَى لها الإِشْفَاقُ دَمْعاً مُورَّداً ... من الدَّمِ يَجْرِي فَوْقَ خَدٍّ مُوَرَّدِ
هيَ البدْرُ يُغنِيهاَ تَوَدُّدُ وَجْهِهاَ ... إلى كُلِّ من لاقَتْ وَإِنْ لم تَوَدَّدِ
ثم قطع المنشد، فقال عمارة: زدنا من هذا، فوصل وقال:
ولكنني لم أحْوِ وَفْراً مُجَمَّعاً ... ففُزْتُ بِه إلاَّ بشَمْلٍ مُبَدَّدِ
ولم تُعطِني الأيَّامُ نوماً مُسَكَّناً ... أَلَذُّ به بنَوْمٍ مُشَرَّدِ
فقال عمارة: لله دره، لقد تقدم صاحبكم في هذا المعنى جميع من سبقه على كثرة القول فيه، حتى لحبب الاغتراب، هيه! فأنشده:
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحَيِّ مُخْلِقٌ ... لديباجَتَيْهِ فاغْتَرِبْ تَتَجدَّدِ
فإنِّي رَأيتُ الشَّمسَ زيِدَتْ مَحَبَّةً ... إلَى النَّاسِ إذْ لَيْسَتْ عليهم بِسَرْمَدِ
فقال عمارة: كَمُل والله، إن كان الشعر بجودة اللفظ، وحسن المعاني، واطراد المراد، واستواء الكلام، فصاحبكم هذا أشعر الناس، وإن كان بغيره فلا أدري!.
حدثني محمد بن موسى قال: سمعت علي بن الجهم ذكر دعبلاً فكفره ولعنه، وطعن على أشياء من شعره، وقال: كان يكذب على أبي تمام، ويضع عليه الأخبار، ووالله ما كان إليه ولا مقارباً له، وأخذ في وصف أبي تمام، فقال له رجل: والله لو كان أبو تمامٍ أخاك ما زاد على مدحك له، فقال: إلا يكن أخاً بالنسب، فإنه أخٌ بالأدب والدين والمودة، أما سمعت ما خاطبني به:
إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاءِ فإِنَّنَا ... نَغْدُو وَنَسْرِي في إِخَاءٍ تَالِدِ
أو يَخْتَلِفْ مَاءٌ الوِصَال فَمَاؤُنا ... عَذْبٌ تَحدَّرَ مِنْ غَمَامٍ وَاحِدِ
أو يَفْتَرِقْ نَسَبٌ يٌؤَلِّفْ بيْنَنَا ... أَدَبٌ أَقَمْنَاهُ مَقَامَ الوَالِدِ
سمعت أبا إسحاق الحري - رحمه الله - يذكر علي بن الجهم، وخبراً له مع أبي تمام، أظنه هذا أو ما يصححه، ولست أحفظه جيداً ولم أجده، لأني كتبته فيما أظن في كتب الحديثٍ وسمعته يقول: كان علي بن الجهم من كملة الرجال. وكان يقال: علمه بالشعر أكثر من شعره، فانظر إلى تفضيل هذا الرجل لأبي تمام، مع تقدمه في الشعر والعلم به، وتفضيل عمارة بن عقيلٍ له، والعلماء يقولون: جاء عمارة بن عقيلٍ على ساقة الشعراء.
ويصحح علم عليٍ بالشعر ما جاء به عبد الله بن الحسين قال، قال لي البحتري: دعاني علي ابن الجهم فمضيت إليه، فأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا أشجع السلمي، فقال لي: إنه يخلي، وأعادها مراتٍ ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت فكرت في الكلمة، ونظرت في شعر أشجع السلمي، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولةً ليس فيها بيت رائع، فإذا هو يريد هذا بعينه، أنه يعمل الأبيات فلا يصيب فيها ببيتٍ نادرٍ، كما أن الرامي إذا رمى برشقه فلم يصب فيه بشيءٍ قيل أخلى.
قال: وكان علي بن الجهم عالما بالشعر.
حدثني أبو بكر هرون بن عبد الله المهلبي قال: كنا في حلقة دعبل، فجرى ذكر أبي تمامٍ، فقال دعبل: كان يتتبع معاني فيأخذها، فقال له رجل في مجلسه: ما من ذاك أعزك الله؟ قال، قلت:
إِنَّ أمْرَأً أَسدَي إلىَّ بشافعٍ ... إليه ويرجُو الشكرَ مِنِّي لأحْمَقُ
شفيعَكَ فاشكُرْ في الحوائجِ إنه ... يصُونُك عن مكروهِها وهو يُخْلِقُ
فقال له الرجل: فكيف قال أبو تمام؟ قال، قال: