وهذا يكثر جداً، ولكنني أتيت بشيءٍ منه يدل على جميعه. ومثل هذا من نقص ذوي الفضل والمتقدمين في الصنائع من جميع الناس قبيح، وهو من العلماء أقبح. نعوذ بالله من اتباع الهوى، ونصر الخطأ، والكلام في العلم بالمحل واللجاج والعصبية.
حدثني عون بن محمد قال: شهدت دعبلاً عند الحسن بن رجاء، وهو يضع من أبي تمام، فاعترضه عصابة الجرجرائي فقال: يا أبا علي اسمع مني مما مدح به أبا سعيد محمد بن يوسف فإن رضيته فذاك، وأعوذ بالله فيك من ألا ترضاه، ثم أنشده:
أمَا إنَّه لولا الخليطُ المودِّعُ
فلما بلغ إلى قوله:
لقد آسَفَ الأعداءَ مجْدُ ابن يوسُفٍ ... وذُو النَّقْصِ في الدُّنيا بذيِ الفَضْلِ مُولَعُ
هو السيلُ إنْ واجَهْتَهُ انْقَدْتَ طَوْعَهُ ... وتَقْتَادُهُ مِنْ جانِبَيهِ فَيَتْبَعُ
ولم أرَ نَفْعاً عند مَنْ لَيْسَ ضَائِراً ... ولم أرَ ضَراً عِنْدَ مَنْ لَيْسَ ينفَعُ
مَعاَدُ الورَى بعدَ الممَاتِ، وسَيْبُهُ ... مَعادٌ لنَا قبل المَماتِ ومَرْجِعُ
فقال دعبل: لم ندفع فضل هذا الرجل، ولكنكم ترفعونه فوق قدره، وتقدمونه وتنسبون إليه ما قد سرقه، فقال له عصابة: تقدمه في إحسانه صيرك له عائباً، وعليه عاتباً.
[أخبار أبي تمام مع الحسن بن وهب]
ومحمد بن عبد الملك الزيات حدثني عبد الرحمن بن أحمد قال: وجدت بخط محمد بن يزيد المبرد أن أبا تمام كتب إلى الحسن بن وهب يستسقيه نبيذاً:
جُعِلْتُ فِداكَ، عبد الله عِنديِ ... بعَقْبِ الهجْرِ منهُ والبِعَادِ
لَهُ لُمَةٌ منَ الكُتَّابِ بِيضٌ ... قضَوْا حقَّ الزيارَةِ والوِدادِ
وأحْسَبُ يَوْمَهمُ إنْ لمْ تَجُدْهُمْ ... مُصَادِفَ دعْوَةٍ منهُمْ جَمَادِ
فكَمْ نَوْءٍ من الصَّهْبَاءِ سَارٍ ... وآخَرَ منكَ بالمعْروُفِ غادِ
فَهَذَا يَسْتَهِلُّ عَلَى غَلِيلي ... وهَذَا يَسْتَهلُّ عَلَى تِلاَديِ
دعَوْتُهُمُ عَليكَ وكنتَ مِمنْ ... نُعَيِّنُهُ عَلَى العُقَدِ الجيِادِ
فوجه إليه بمائةٍ دنّ ومائة دينارٍ، وقال: لكل دنٍ دينار.
حدثني عبد الله بن المعتز قال: صار إلي محمد بن يزيد النحوي منصرفاً من عند القاضي إسماعيل، وكان يجيئني كثيراً إذا انصرف من عنده، فأعلمني أن الحارثي الذي يقول فيه ابن الجهم:
لَمْ يَطْلعَا إِلاَّ لآبدَةٍ ... الحارثي وكوكب الذَّنَبِ
دخل إلى القاضي إسماعيل، فأنشده شعراً لأبي تمام إلى الحسن بن وهب، يستسقيه نبيذاً لم أر أحسن منه في معناه، وأنه كره أن يستعيده أو يقول له اكتبه، لحال القاضي، فقلت له: أتحفظ منه شيئاً؟ قال: نعم، أوله:
جُعِلتً فِداك عبد الله عندي
قال: فأنشدته الأبيات وكنت أحفظها فكتبها بيده وهي هذه الأبيات التي ذكرناها.
حدثنا أحمد بن إسماعيل قال، حدثني عبيد الله بن عبد الله قال: استهدي أبو العيناء مطبوخاً، فوجهت إليه بشيءٍ منه، فاستقله وكتب إلي: أقول للأمير ما قاله أبو تمام لمحمد بن علي بن عيسى القمي، وقد استهداه شراباً فأبطأ رسوله، ثم وجه إليه بشرابٍ أسود قليلٍ، فكتب إليه:
قد عرفنا دلائلَ المنْعِ أوْ مَا ... يُشْبِهُ المنْعَ باحتباسِ الرَّسُولِ
وافتَضَحْنا عند الزَّبِيبِ بما صَحَّ ... لديْهِ مِنْ قُبْحِ وَجْهِ الشَّمُولِ
وهْيَ نَزْرٌ لو أنًّها من دُمُوعِ الصَّبِّ ... لم تَشْفِ منه حَرَّ الغليلِ
قد كتَبْنَا لك الأمانَ فَما تسألُ ... منْهَا عُمْرَ الزمان الطويل
كم مغطى قد اختبرنا نداه ... وعرضنا كثيره بالقليل
قال: فأرضيت أبا العيناء بعد ذلك.
ومثل قوله:
وهْي نَزْرٌ لَوْ أنَّها من دمُوع الصَّب
ما حدثنيه أحمد بن إبراهيم الغنوي قال: طلب أبو مالك الرسعني وخاله ذو نواس البجلي الشاعر من صديقٍ له نبيذاً، فوجه إليه بأرطالٍ يسيرة فكتب إليه:
لو كانَ ما أهْدَيْتَهُ إِثْمِداً ... لم يكْفِ إلاَّ مُقْلةً واحدَهْ