وكان عبد الله قد عمل بعد هذا الخبر كلاماً يتبعه به فكتبته عنه، قال عبد الله: وهذا الفعل من العلماء مفرط القبح، لأنه يجب ألا يدفع إحسان محسن، عدواً كان أو صديقاً، وأن تؤخذ الفائدة من الرفيع والوضيع، فإنه يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ - صلوات الله عليه - أنه قال: الحكمة ضالة المؤمن، فخذ ضالتك ولو من أهل الشرك. ويروى عن بزر جمهر أنه قال: أخذت من كل شيءٍ أحسن ما فيه، حتى انتهيت إلى الكلب والهرة والخنزير والغراب. قيل: وما أخذت من الكلب؟ قال: إلفه لأهله، وذبه عن حريمه. قيل: فمن الغراب؟ قال: شدة حذره. قيل: فمن الخنزير؟ قال: بكوره في إرادته. قيل: فمن الهرة؟ قال: حسن رفقها عند المسألة، ولين صياحها.
قال أبو العباس: ومن عاب مثل هذه الأشعار، التي ترتاح لها القلوب، وتجذل بها النفوس، وتصغي إليها الأسماع، وتشحذ بها الأذهان، فإنما غض من نفسه، وطعن على معرفته واختياره. وقد روى عن عبد الله بن العباس رحمه الله أنه قال: الهوى إله معبود، واحتج بقول الله جل وعز: " أفرأيتَ مَنِ اتخذَ إلههُ هَوَاهُ ". انقضى كلام عبد الله.
حدثني علي بن محمد الأسدي قال: حدثني أحمد بن يحيى ثعلب قال: وقف ابن الأعرابي على المدائني فقال له: إلى أين يا أبا عبد الله؟ قال: إلى الذي هو كما قال الشاعر:
تَحْمِلُ أَشْبَاحَنَا إلى مَلِكٍ ... نَأخُذُ مِنْ مَالِهِ ومِنْ أَدَبِهْ
قال أبو بكر: فتمثل بشعر أبي تمام وهو لا يدري، ولعله لو درى ما تمثل به. وكذلك فعل في النوادر: جاء فيها بكثيرٍ من أشعار المحدثين، ولعله لو علم بذلك ما فعله.
وقد رأينا الأعداء يصدقون في أعدائهم، لا لنيةٍ في تقديمهم، ولا لمحبةٍ في رفعهم وتقريظهم، ولا لديانة يرعونها فيهم، ولكن يفعلونه حياطةً لأنفسهم، وتنبيهاً على فضلهم وعلمهم. فمن ذلك قول عمارة بن عقيل وقد أنشد قصيدةً للفرزدق يهجو بها جريراً: أكل والله أبي، أكل والله أبي! ومن ذلك قول الفرزدق، وقد سمع قول جريرٍ، حدثني به الفضل بن الحباب، قال: حدثني محمد بن سلام عن مسلمة بن محارب بن سلم بن زياد قال: كان الفرزدق عند أبي في مشربةٍ له، فدخل رجل فقال: وردت اليوم المربد قصيدة لجرير، تناشدها الناس، فامتقع لون الفرزدق، فقال له: ليست فيك يا أبا فراس قال: ففيمن؟ قال: في ابن لجأ التيمي، قال: أحفظت منها شيئاً؟ قال: نعم، علقت منها ببيتين، قال: ما هما؟ فأنشده:
لئِنْ عُمِّرَتْ تَيْمٌ زماناً بِعِزَّةٍ ... لقَد حُدِيَتْ تيمٌ حُدَاءً عَصَبْصَبا
فلا يَضْغَمَنَّ الليثُ عُكْلاً بِعِرَّةٍ ... وعُكْلٌ يَشَمُّونَ الفَرِيسَ المُنَيَّبَا
وفسر لي أبو خليفة وأبو ذكوان جميعاً هذا المعنى عن ابن سلام قال: الليث إذا ضغم الشاة ثم طرد عنها جاءت الغنم تشم ذلك الموضع فيغترها فيخطف الشاة، وعكل إخوة التيم وعدي وثورٍ، وهم بنو عبد مناة بن أدّ. يقول: فلا تنصروهم فأهجوكم وأدعهم. قال ابن سلام: ونحوه قول جرير:
وقُلتُ نَصَاحةً لبني عَدِيٍّ ... ثِيابَكُم وَنَضْحَ دَمِ القَتِيلِ
فقال الفرزدق: قاتله الله، إذا أخذ هذا المأخذ فما يقام له: يعني الروي على الياء. وقال ابن سلام حدثني رجل من بني حنيفة قال، قال الفرزدق: وجدت - ألياء - أم جرير وأباه، أي يجيد إذا ركبها. ومن ذلك قول الراعي في جريرٍ وقد هجاه، حدثني القاضي أبو خليفة الفضل بن الحباب قال: حدثني محمد بن سلام قال، حدثني أبو البيداء الرياحي قال: مر راكب يتغني:
وَعاوٍ عَوَى من غيرِ شيءٍ رمَيتُه ... بقافيةٍ أَنْفاذُهَا تَقْطُر الدَّمَا
خروج بأَفْوَاهِ الرِّجالِ كأَنَّها ... قَرَى هُنْدُوانّيٍ إذا هُزَّ صَمَّما
فقال الراعي: من بالبيتين؟ قال: جرير، قال: قاتله الله، لو اجتمعت الجن والإنس ما أغنوا فيه شيئاً. قال ابن سلام، قال الراعي: ألامُ أن يغلبني مثل هذا؟ حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن بشار قال، قال بشار لراويته: أنشدني من قول حمادٍ فأنشده:
نُسِبْتَ إلى بُردٍ وأنتَ لغيرِهِفَهَبْكَ لِبُرْدٍ نِكتُ أمَّكَ مَنْ بُرْدُ؟
فقال: هاهنا أحد يسمع كلامي؟ قال: لا، قال: أحسن ابن الزانية!.