حدثنا عون بن محمد الكندي قال، حدثني محمد بن سعد أبو عبد الله الرقي - وكان يكتب للحسن بن رجاء - قال: قدم أبو تمام مدحاً للحسن بن رجاء، فرأيت رجلاً علمه وعقله فوق شعره، واستنشده الحسن بن رجاء، ونحن في مجلس شربٍ فأنشده:
كُفِّى وَغَاكِ فَإنَّني لَكِ قَالِي ... ليسَتْ هَوَادِي عَزْمَتيِ بِتَوَالِي
أَنَا ذُو عَرَفْتِ فإنْ عرَتْكِ جَهَالةٌ ... فأَنَا المُقِيمُ قِيَامَةَ العُذَّالِ
فلما قال:
عادَتْ لَهُ أيامُهُ مُسْوَدَّة ... حتّى تَوَهَّمَ أَنّهُنَّ لَيَالِي
قال له الحسن: والله لا تسود عليك بعد اليوم. فلما قال:
لا تُنْكرِي عَطَلَ الْكَرِيِمِ مِنَ الغِنَى ... فالسَّيْلُ حَرْبٌ لِلْمَكانِ العَاليِ
وتَنَظَّرِي خَبَبَ الرِّكَابِ يَنُصُّهَا ... مُحْيِ القَرِيضِ إلىَ مُمِيتَ المَالِ
قام الحسن بن رجاء وقال: والله لا أتممتها إلا وأنا قائم، فقام أبو تمامٍ لقيامه، وقال:
لمَّا بَلغْنَا سَاحَةَ الحسَنِ انْقَضَى ... عنَّا تَمَلُّكُ دوْلَةِ الإمْحَالِ
بَسَطَ الرَّجَاءَ لَنَا بِرَغْمِ نَوَائِبٍ ... كَثْرَتْ بِهنَّ مَصَارِعُ الآمَالِ
أَغْلَى عَذَارَى الشِّعْر، إِنَّ مُهُورَهَا ... عِنْدَ الكِرَامِ إِذَا رَخُصْنَ غَوَالِي
تَرِدُ الظُّنُونَ بِهِ عَلَى تَصْدِيِقَها ... وَيُحَكِّمُ الآمَالَ في الأمْوَالِ
أَضْحَى سَمِىُّ أَبيِكَ فِيكَ مُصَدِّقاً ... بأَجَلِّ فَائِدَةٍ وَأَيْمَنِ فَالِ
وَرَأَيْتَني فَسَأَلْتَ نَفْسَكَ سَيْبَهَالِي، ثُمَّ جُدْتَ وَمَا انْتَظَرْتَ سُؤَالِي
كالْغَيْمِ لَيْسَ لَهُأُرِيدَ غِيَاثُهُأَوْ لَمْ يُرَدْ بُدٌّ مِنَ التَّهْطَالِ
فتعانقا وجلسا، فقال له الحسن: ما أحسن ما جليت هذه العروس! فقال: والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك أوفى مهورها. قال محمد بن سعيد: فأقام شهرين فأخذ على يدي عشرة آلاف درهم، وأخذ غير ذلك مما لم أعلم به، على بخلٍ كان في الحسن بن رجاء.
حدثني أبو الحسن الأنصاري قال، حدثني نصير الرومي مولى مبهوتة الهاشمي قال: كنت مع الحسن بن رجاء، فقدم عليه أبو تمام فكان مقيماً عنده، وكان قد تقدم إلى حاجبه ألا يقف ببابه طالب حاجةٍ إلا أعلمه خبره، فدخل حاجبه يوماً يضحك، فقال: ما شأنك؟ فقال: بالباب رجل يستأذن ويزعم أنه أبو تمامٍ الطائي! قال: فقل له ما حاجتك؟ قال: يقول مدحت الأمير - أعزه الله - وجئت لأنشده، قال: أدخله، فدخل فحضرت المائدة، فأمره فأكل معه، ثم قال له: من أنت؟ قال: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، مدحت الأمير أعزه الله، قال: هات مدحك، فأنشده قصيدةً حسنةً، فقال: قد أحسنت، وقد أمرت لك بثلاثة آلاف درهمٍ، فشكر ودعا، وكان الحسن قد تقدم قبل دخوله إلى الجماعة ألا يقولوا له شيئاً، فقال له أبو تمام: نريد أن تجيز لنا هذا البيت، وعمل بيتاً، فلجلج، فقال له: ويحك، أما تستحي، ادعيت اسمي واسم أبي وكنيتي ونسبي، وأنا أبو تمام! فضحك الشيخ وقال: لا تعجل علىَّ حتى أحدث الأمير - أعزه الله - قصتي: أنا رجل كانت لي حال فتغيرت، فأشار على صديق لي من أهل الأدب أن أقصد الأمير بمدح، فقلت له: لا أحسن، فقال أنا أعمل لك قصيدةً، فعمل هذه القصيدة ووهبها لي، وقال: لعلك تنال خيراً، فقال له الحسن: قد نلت ما تريد، وقد أضعفت جائزتك. قال: فكان ينادمه ويتولعون به فيكنونه بأبي تمام.
حدثني أبو بكر القنطري قال، حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: ما سمعت الحسن بن رجاء ذكر قط أبا تمام إلا قال: ذاك أبو التمام، وما رأيت أعلم بكل شيءٍ منه.
حدثني علي بن إسماعيل النوبختي قال، قال لي البحتري: والله يا أبا الحسن لو رأيت أبا تمام الطائي، لرأيت أكمل الناس عقلاً وأدباً، وعلمت أن أقل شيءٍ فيه شعره!.