ألاَ أَيُّهَا النَّاعِي ذُفَافَةَ وَالنَّدَىتَعِسْتَ وشُلَّتْ مِنْ أَنامِلكَ العَشْرُ
أَتَنْعَى لنا منْ قَيْسِ عَيْلاَنَ صَخْرةً ... تَفَلَّقَ عنها مِن جبالِ العِدَى الصَّخرُ
إذا ما أَبو العبَّاسِ خَلَّى مَكانَهُ ... فلا حَمَلَتْ أُنثَى ولا نالهَا طُهْرُ
ولا أَمطَرَتْ أَرْضاً سَماءٌ ولا جَرَتْ ... نُجومٌ ولا لَذَّتْ لِشَارِبِها الخَمْرُ
كأَنَّ بني القَعْقَاعِ يومَ وَفاتِه ... نُجُومُ سَماءٍ خَرَّ مِن بَينَهَا البَدْرُ
تُوُفِّيَتِ الآمَالُ بعدَ وَفاتِهِ ... وَأَصْبحَ في شُغْلٍ عَنِ السَّفَرِ السَّفْرُ
ثم قال: سرق أبو تمام أكثر هذه القصيدة، فأدخلها في شعره. وحدثني محمد بن موسى بهذا الحديث مرةً أخرى ثم قال: فحدثت الحسن بن وهبٍ بذلك، فقال لي: أما قصيدة مكنفٍ هذه فأنا أعرفها، وشعر هذا الرجل عندي، وقد كان أبو تمام ينشدنيه، وما في قصيدته شيءٌ مما في قصيدة أبي تمام، ولكن دعبلاً خلط القصيدتين، إذ كانتا في وزنٍ واحدٍ، وكانتا مرثيتين، ليكذب على أبي تمام.
حدثنا عبد الله بن الحسين قال، حدثني وهب بن سعيد قال: جاء دعبل إلى أبي علي الحسن بن وهبٍ في حاجةٍ بعد ما مات أبو تمام، فقال له رجل: يا أبا علي، أنت الذي تطعن على من يقول:
شَهِدْتُ لقَدْ أَقَوَتْ مَغَانيكُمُ بَعْدِي ... وَمَحَّتْ كما مَحَّتْ وشائِعُ مِن بُرْدِ
وَأَنْجَدْتُمُ مِنْ بَعْدِ إِتْهَامِ دَارِكمفيا دَمْعُ أَنْجِدْني عَلَى سَاكِني نَجْدِ
فصاح دعبل: أحسن والله، وجعل يردد:
فيا دَمْعُ أنجِدْني على ساكني نَجْدِ
ثم قال: رحمه الله، لو ترك لي شيئاً من شعره لقلت إنه أشعر الناس.
ولهذا الشعر خبر: حدثني عبد الله بن المعتز قال، جاءني محمد بن يزيد النحوي فاحتبسته، فأقام عندي، فجرى ذكر أبي تمام، فلم يوفه حقه؛ وكان في المجلس رجل من الكتاب نعماني، ما رأيت أحداً أحفظ لشعر أبي تمام منه، فقال له: يا أبا العباس، ضع في نفسك من شئت من الشعراء، ثم انظر، أيحسن أن يقول مثل ما قاله أبو تمام لأبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافقي يعتذر إليه:
شَهِدْتُ لقَدْ أَقَوَتْ مَغَانيكُمُ بَعْدِي ... وَمَحَّتْ كما مَحَّتْ وشائِعُ مِن بُرْدِ
وَأَنْجَدْتُمُ مِنْ بَعْدِ إِتْهَامِ دَارِكمفيا دَمْعُ أَنْجِدْني عَلَى سَاكِني نَجْدِ
ثم مر فيها حتى بلغ إلى قوله في الاعتذار:
أَتانِي مَعَ الرُّكْبانِ ظَنٌّ ظَنَنْتُهُ ... لَفَفْتُ لَهْ رَأسي حَيَاءً مِنَ المَجْدِ
لقَدْ نَكَبَ الغَدْرُ الوفَاءَ بساحَتيِ ... إِذَنْ، وسَرَحْتُ الذَّمَّ في مَسْرَحِ الحمدِ
جَحَدْتُ إذَنْ كم مِن يدٍ لَكَ شَاكلتْيدَ القُرْبِ أَعْدَتْ مُستَهَاماً عَلَى البُعْدِ
وَمِن زَمَنٍ أَلبسْتَنيهِ كأَنهُ ... إذَا ذُكِرَتْ أَيامُهُ زَمَنُ الوَرْدِ
وكيفَ وَمَا أَخْلَلتُ بعدَك بالحِجَي ... وأنتَ فلم تُخْلِلْ بمَكْرمُةٍ بَعْدِي
أُسَرْبِلُ هُجْرَ القَوْلِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إِذَنْ لهجانِي عنهُ معروُفُه عِنْدي؟
كَريمٌ متى أَمدحْهُ أَمدَحْهُ وَالْوَرَى ... معي، ومتَى مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي
فإِنْ يكُ جُرْمٌ عَنَّ أَوْ تَكُ هَفْوَةٌ ... عَلَى خَطإٍ مِنِّي فَعُذْرِي عَلَى عَمْدِ
فقال أبو العباس محمد ين يزيد: ما سمعت أحسن من هذا قط، ما يهضم هذا الرجل حقه إلا أحد رجلين: إما جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام، وإما عالم لم يتبحر شعره ولم يسمعه. قال أبو العباس عبد الله بن المعتز: وما مات إلا وهو منتقل عن جميع ما كان يقوله، مقر بفضل أبي تمامٍ وإحسانه.
أما قوله:
أَأُلبِسُ هُجْرَ القَوْلِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إِذَنْ لَهَجَانِي عَنْهُ معروفُه عِندي
فهو منقول من شعرٍ حسنٍ لا يفضله شعر.