قَلَّ طُلاَّبُهَا فأَضْحَتْ خَسَاراً ... فَتِجَارَاتُنا بهَا تُرَّهَاتُ
فاحْتَسِبْ أَجْرَنَا وَأَوْفِ لنَا الكَيْلَ ... وَصَدِّقْ فإِنَّنا أَمْوَاتْ
فضحك عبد الله لما قرأ الشعر، وقال: قولوا لأبي تمام لا تعاود مثل هذا الشعر، فإن القرآن أجل من أن يستعار شيء من ألفاظه للشعر، قال: ووجد عليه.
حدثنا أبو عبد الله محمد بن موسى الرازي قال، حدثني محمد بن إسحاق الختلي، وكان يتوكل لعبد الله بن طاهر، قال: لما قدم أبو تمامٍ على عبد الله بن طاهر أمر له بشيءٍ لم يرضه ففرقه، فغضب عليه لاستقلاله ما أعطاه، وتفريقه إياه، فشكا أبو تمام ذلك إلى أبي العميثل شاعر آل طاهر، وأخص الناس بهم، فدخل على عبد الله بن طاهر فقال له: أيها الأمير، أتغضب على من حمل إليك أمله من العراق، وكد فيك جسمه وفكره، ومن يقول فيك:
يقُولُ في قُومَسٍ صَحْبي وَقدْ أَخَذَتْ ... مِنَّا السُّرَى وخُطَى المَهْرِيَّةِ القُودِ
أَمَطْلِعَ الشّمْسِ تَنْوِي أَنْ تَؤُمَّ بنَا؟ ... فَقُلتُ: كلاّ، ولكنْ مَطْلِعَ الجُودِ
قال: فدعا به ونادمه يومه ذلك، وخلع عليه، ووهب له ألف دينار وخاتما كان في يده له قدر.
حدثني أبو عبد الله محمد بن طاهر قال: لما دخل أبو تمامٍ أبرشهر، هوى بها مغنيةً كانت تغنى بالفارسية، وكانت حاذقةً طيبة الصوت، فكان عبد الله كلما سأل عنه أخبر أنه عندها، فنقص عنده، قال: وفيها يقول أبو تمام:
أَيَا سَهَرِي بَليْلةِ أَبْرَشَهْرٍ ... ذَمَمْتَ إليَّ يَوْماً في سِوَاهَا
شَكَرْتكِ لَيْلةً حسْنَتْ وَطَابَتْ ... أَقَامَ سُرُورُهَا ومَضَى كَراهَا
إذَا وَهَدَاتُ أَرْضٍ كانَ فِيهَا ... رِضَاكِ فَلاَ تَحِنَّ إلَى رُباهَا
سَمِعْتُ بهَا غِنَاءً كانَ أَحْرَى ... بِأَنْ يَقْتَادَ نَفْسِي مِنْ غِنَاهَا
ومُسْمِعَةٍ تَقُوتُ السَّمْعَ حُسْناً ... وَلَمْ تُصْمِمْهُ لاَ يُصَمْم صَداهَا
مَرَتْ أَوْتَارَهَا فَشَجَتْ وَشَاقَتْ ... فَلَوْ يَسْطيعُ سَامِعُهَا فَدَاهَا
وَلَمْ أَفْهَمْ مَعَايِنَهَا وَلكِنْ ... وَرَت كَبِدِي فَلمْ أَجْهَلْ شَجَاهَا
فَبِتُّ كأنَّنِي أَعْمَى مُعَنًّى ... يُحِبُّ الغَانِيَاتِ وَمَا يَرَاهَا
وقد أحسن أبو تمام في هذه الأبيات، على أن الحسين بن الضحاك قد قال، ورواه قوم لأبي نواس ولا أعلمه له، ولكن أبا جعفرٍ المهلبي أنشدنيه للحسين، وقد سمع فارسياً يغني:
وصَوْتٍ لبني الأحْرَا ... رِ أهلِ السِّيرَةِ الحُسْنَى
شَجِىٍ يأكُلُ الأَوْتَا ... رَ حَتَّى كُلُّها يَفْنَى
فما أَدْرِي اليَدُ اليُسْرَى ... بِهِ أَشْقَى أَمِ اليُمْنَى؟
وما أَفْهِمُ ما يَعْني ... مُغَنِّينَا إِذَا غَنَّى
سِوَى أَنِّىَ مِنْ حُبِّى ... له أَسْتَحْسِنُ المعْنَى
ويروى: - أنِّىَ من عُجْبي به - وأول من نطق بهذا المعنى وزعم أن أعجمياً شاقه وشجاه حميد بن ثور، إلا أنه وصف صوت حمامةٍ:
عجبْتُ لها أَنَّي يكونُ غِناؤُهَا ... فَصِيحاً ولم تَفْغَرْ بمنطِقِهَا فَمَا!
ولمْ أَرَ مَحْقُوراً لهُ مثلُ صَوْتِهَا ... أَحَنَّ وَأجْوَى للحزيِنِ وأَكْلَمَا
ولَمْ أَرَ مِثْلِي هَاجَهُ اليَوْمَ مِثْلهُا ... ولاَ عَرَبِياًّ شَاقَهُ صَوْتُ أعْجَمَا
وأما قوله:
ومُسْمِعَةٍ تَقُوتُ السَّمعَ حُسْناً
فهو من قولهم: الغناء غذاء الاسماع، كما أن الطعام غذاء الأبدان.
حدثني محمد بن سعيد وغيره عن حماد بن إسحاق قال: كان مروان بن أبي حفصة يجيء إلى جدي إبراهيم، فإذا تغدى قال: قد أطعمتمونا طيباً، فأطعموا آذاننا حسناً.
وقال ابن أبي طاهر: قلت لأبي تمام: أعنيت بقولك أحداً:
فبتُّ كأنّنِي أَعْمَى مُعَنًّى ... يُحِبُّ الغانياتِ وما يَرَاها
فقال: نعم، عنيت بشار بن برد الضرير، قال: وأنا أحسبه أراد قوله: