وفي روايةٍ أخرى أوردها الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ}، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" قولوا: سمعنا وأطعنا وسلَّمنا "، فألقى الله الإِيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا. (قال: قد فعلت) رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا (قال: قد فعلت) رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. (قال: قد فعلت)}.
وكم تعجبني فطنة ودقة وذكاء الإمام مسلم، عندما أورد الحديثين ضمن باب جعل عنوانه:" بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق ".
بعد هذا البيان نستطيع أن نقول: إن هذه الآية نسخت حكماً شاقاً جداً، تلقاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة والقبول -رغم مشقته- حيث قررت الآية الأولى في هذه المجموعة: أن كل ما يعمله الإِنسان محاسبٌ به، سواءٌ كان هذا قولاً، أو فعلاً، أو فكرةً وهاجساً في الضمير، سواءٌ كان ظاهراً في الخارج بصورة عملٍ أو كلام، أو كان مخفياً في النفس في صورة خاطرٍ أو وسواسٍ أو هاجس.
وإذا كان المسلم بمقدوره أن يتحكم في قوله أو عمله، بحيث يكون موافقاً للشرع، فإنه يكاد يكون مستحيلاً عليه أن يتحكم في مشاعره وأفكاره وخطراته ووساوسه، فقد يخرج في واحدة من هذه المسائل عن توجيهات الشرع، فإذا حاسبه الله على هذه الأمور اللاإرادية، فقد يكون هذا تكليفاً بما لا يطاق، وتكليفاً بالمحال.