للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد أفردتني الحادثات فليس لي ... أنيس، ولا في طارق الخطب أعوان

كأني من غير التراب نبت بي الب ... لاد، فما لي في البسيطة أوطان

أجول، كما جالت قذاة بمقلة ... وأسرى، وسارى النجم في الأفق حيران

إذا قلت: هذا حين ألقى عصا السرى ... دعاني إلى الترحال ظلم وعدوان

وقال أبو الفتيان بن حيوس:

وللحمية لا عن زلة حكمت ... بالبعد فارقت إخواناً وأوطانا

تخيفني بلدة حتى أميل إلى=أخرى، كأني عمران بن حطانا قلت: ربما وقف على هذين البيتين من يتطلع إلى معنى قول أبي الفتيان: "كأني عمران بن حطان" فرأيت أن اذكر شيئاً من أخباره، وإن لم يقتض التأليف ذلك.

عن الهيثم بن عدي قال: طلب الحجاج عمران بن حطان السدوسي، وكان من الخوارج، وكتب فيه إلى عماله، وإلى عبد الملك بن مروان، فهرب، فلم يزل يتنقل في أحياء العرب، وقال في ذلك:

حللنا في بني كعب بن عمرو ... وفي عك وعامر عوثبان

وفي جرم، وفي عمرو بن مر ... وفي زيد، وحي بن العدان

ثم لحق بالشام، فنزل بروح بن زنباع الجذامي، فقال له روح: من أنت؟ فقال: من الأزد أزد السراة، وكان روح يسمر عند عبد الملك بن مروان، فقال لعبد الملك: إن في أضيافنا رجلاً ما سمعت منك حديثاً إلا حدثني به، وزادني ما لم يكن عندي، فقال: ممن هو؟ قال: من الأزد، قال: إني لأسمعك تصف عمران بن حطان، أسمعك تصف وتذكر لغة نزارية، قال روح: وما أنا وعمران بن حطان، ثم أنشد عبد الملك:

يا ضربة من تقى ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

قاتل علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فراح روح فأخبر عبد الملك، فقال: من أخبرك؟ قال: ضيفي، قال: أظنه والله عمران بن حطان، فأعلمه أني قد أمرتك أن تأتيني به، فقال: أفعل، فراح روح إلى أضيافه، فأقبل على عمران، فقال له: إني ذكرتك لعبد الملك، فأمرني أن آتيه بك، فقال: قد كنت أحب ذاك، وما منعني من ذكره إلى الحياء، وأنا متبعك، فدخل روح على عبد الملك، فقال له: أين صاحبنك؟ قال: قال لي: أنا متبعك فانطلق، فقال عبد الملك: أظنك والله سترجع فلا تجده، فلما رجع روح إلى منزله، فإذا عمران قد مضى، وإذا هو قد خلف رقعة في كوة عند رأسه، وإذا فيها:

يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ... قد ظن ظنك من لخم وغسان

حتى إذا خفته زايلت منزله ... من بعد ما قيل: عمران بن حطان

قد كنت ضيفك حولاً لا يروعني ... فيه طوارق من إنس ومن جان

حتى أردت بي العظمى فأوحشني ... ما أوحش الناس من خوف ابن مروان

فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له ... في الحادثات هنات ذات ألوان

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني

لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية ... كنت المقدم في سري وإعلاني

لكن أبت لي آيات مطهرة ... عند التلاوة من طه وعمران

قال: ثم أتى عمران بن حطان الجزيرة، فنزل بزفر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا فجعل شباب بني عامر يتعجبون من طول صلاته، وانتسب لزفر أوزاعياً، فقدم على زفر رجل من أهل الشام، وكان قد رأى عمران بن حطان عند روح بن زنباع، فصافحه وسلم عليه، فقال: زفر للرجل الشامي: أتعرفه؟ قال: نعم، هذا الشيخ من الأزد، فقال زفر: أزدي مرة، وأوزاعي مرة؟ إن كنت خائفاً أمناك، وإن كنت عائلاً أغنيناك، فقال: إن الله هو المغني، وخرج من عنده وهو يقول:

إن التي أصبحت يعيا بها زفر ... أعيا عياها على روح بن زنباع

أمسى يسائلني حولاً لأخبره ... والناس من بين مخدوع وخداع

حتى إذا انجذمت مني حبائله ... كف السؤال، ولم يولع بإهلاعي

فاكفف كما كف روح إنني رجل ... إما صويح وإما فقعة القاع

أما الصلاة فإني غير تاركها ... كل امرئ بالذي يعنى له ساع

فاكفف شبابك عن هزلي ومسألتي ... ماذا تريد إلى شيخ لأوزاع؟!

أكرم بروح بن زنباع وأسرته ... قوم دعا أوليهم للعلى داع

جاورتهم زمنا فيما دعوت به ... عرضي صحيح ونومي غير تهجاع

فاعمل فإنك منعي بحادثة ... حسب اللبيب بهذا الشيب من ناع

<<  <   >  >>