للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لكن إذا حمت الأقدار كان لها ... قوى تؤلف بين الماء والنار

وقال آخر:

ترى الذي اتخذ الدنيا له وطناً ... لم يدر أن المنايا عنه تزعجه

من كان يعلم أن الموت مدرجه ... والقبر منزله، والبعث مخرجه

وأنه بين جنات ستبهجه ... يوم القيامة، أو نار ستنضجه

فكل شيء سوى التقوى به سمج ... وما أقام عليه فهو أسمجه

وقال آخر:

من الخراب من الأوطان أوطاني ... وقد مضى لي في العمران عمران

قد لمت أول من يثني عناني عن ... سبل الهوى وزجرت الثاني الثاني

في مجلس تبهج الرائين رؤيته ... ولي قرينان من حلوان حلوان

لا يحضران امرءاً عندي بمنقصة ... ولا إذا جادت الكفان كفاني

لكن يكدر عيشي بعد ذي هيف ... إدمانه الخطر بالأردان أرداني

تقول ألحاظه: أنظر، فقد ضمنت ... أشباه ما ضمت الأجفان أجفاني

جفا، وما كان يجفوني وغادرني=ميتاً، ولو شاء في الأحيان أحياني

والحين أبعد عن مأواي مسكنه ... ولو تقاربت الداران داراني

وحاسد غره بعدي فأسخطني ... ولو تجاورت الأرضان أرضاني

كم قد وري من حسود ما يعاين من ... فضلي، وكم قد شجى من شأني شاني

[١٢- فصل في ذكر المدن]

عن سهل بن عبد الله - رحمه الله - أنه كان ينفق ماله في طاعة الله تعالى، فجاءت أمه وإخوته إلى عبد الله بن المبارك - رضي الله عنه - يشكونه، فقالوا: هذا لا يمسك شيئاً، ونخشى عليه الفقر، فأراد عبد الله أن يعينهم عليه، فقال له سهل: يا عبد الله أرأيت لو أن رجلاً من أهل المدينة اشترى ضيعة برستاق، وهو يريد أن يتحول عن المدينة إليها، أكان يخلف بالمدينة شيئاً وهو يسكن الرستاق؟ فقال عبد الله - رحمه الله -: خصمكم، يعني أنه إذا أراد أن يتحول إلى الرستاق لا يترك بالمدينة شيئاً، فالذي يريد أن يتحول إلى الآخرة كيف يترك في الدنيا شيئاً؟! قال أبو نواس:

أين من كان قبلنا ... من ذويب البأس والخطر

سائلوا عنهم المدا ... ئن واستخبروا الخمر

سبقونا إلى الرحي_ل، وإنا لبالأثر

من مضى عبرة لنا ... وغداً نحن معتبر

وقال أبو تمام:

قد قلت للزباء لما أصبحت ... في حد ناب للزمان ومخلب

لمدينة عجماء قد أمسى البلى ... فيها خطيباً باللسان المعرب

فكأنما سكن الفناء فناءها ... أوصال فيها الدهر صولة مغضب

وقلت:

سل المدائن عمن كان يملكها ... هل آنست منهم من بعدهم خبرا

فلو أجابتك قالت ... وهي عالمة

بسيرة الذاهب الماضي ومن غبرا

أرتهم العبر الدنيا، فما اعتبروا ... فصيرتهم لقوم بعدهم عبراً

عن سليمان بن عياش قال: قالت أنيسة زوجة جبهاء الأشجعي لجبهاء: لو هاجرت إلى المدينة، وبعت إبلك، وافترضت في العضاء، كان خيراً لك، قال: أفعل، فأقبل غادياً بإبله، حتى إذا كان بحرة واقم من شرقي المدينة شرعها بحوض واقم يسقيها، فحنت ناقة منها، ثم نزعت، وتبعتها الإبل ففاتته، فقال جبهاء لزوجته: هذه الإبل لا تعقل تحن إلى أوطانها، ونحن أولى بالحنين منها، أنت طالق إن لم ترجعي [فقالت] : فعل الله بك وفعل، فردها، وقال:

قالت أنيسة: دع بلادك والتمس ... داراً بطيبة ربة الآطام

تكتب عيالك في العطاء، وتفترض ... وكذاك يفعل حازم الأقوام

فهممت ثم ذكرت ليل لقاحنا ... بلوى عنيزة أو بقف بسام

إذ هن عن حسبي مذاود كلما ... نزل الظلام بعصبة أعيام

إن المدينة لا مدينة فالزمي=حقف السناد، وقنة الاجام

وتجاوري النفر الذين بنبلهم ... أرمى العدو إذا تهضم رام

الباذلين ... إذا طلبت

تلادهم

والمانعي ظهري من العرام

ذهب الرجال فلا أحس رجالا ... وأرى الإقامة بالعراق ضلالا

وأرى المرجى للعراق وأهله ... ظمآن هاجرة يؤمل آلا

وطربت أن ذكر المدينة ذاكر ... يوم الخميس فهاج لي بلبالا

وجعلت أنظر في السماء كأنني ... أبغي بناحية السماء هلالا

طرباً إلى أهل الحجاز وتارة ... أبكي بدمع مسبل إسبالاً

١٣- فصل في ذكر البلاد

<<  <   >  >>