للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أقول هذا باب عقدناه لذكر أكثر المحبين ميلاً وأظهرهم دليلاً وأحسنهم سيرة وأزكاهم سريرة وأعفهم مع القدرة ولا سيما بنو عذرة الذين هم أشد الناس غراماً وأعظمهم هياماً فلذلك قلت وقول العشق مع العفة في بني عذرة كثير والمقتول منهم عشقاً جم غفير فإن ذكر أحدهم بالعفة فجميل جميل الصفات صادق العزمات وسنورد من أخباره في هذا المقام ما يصدق هذه الدعوى ويحقق أن التسلي بالمحبوب عن غيره ضرب من السلوى فمن ذلك ما حكاه محمد بن جعفر الأهوازي قال مرض جميل بمصر مرضه الذي مات فيه فدخل عليه العباس بن سهل فقال له جميل ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق يشهد أن لا إله إلا الله قلت أظنه قد نجا وأرجو له الجنة فمن هذا الرجل قال أنا فقلت له ما أحسبك سلمت وأنت منذ عشرن سنة تسبب ببثينة فقال أني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط فما قمنا حتى مات سنة اثنتين وثمانين من الهجرة ومن غريب ما حكاه الزبير من أخبار جمل أن بثينة المذكورة من بني عذرة وبنو عذرة قبيلة مشهورة بالعشق في قبائل العرب وإليهم ينسب الهوى العذري لأنهم أشد سائر خلق الله عشقاً قال سعيد بن عقبة لأعرابي ممن أنت قال من قوم إذا عشقوا ماتوا قال عذري ورب الكعبة ثم قال ولم ذلك قال لأن في نسائنا صباحة وفي فتياتنا عفة وقال رجل لعروة بن جزام يا هذا بالله أصحيح ما يقال عنكم أنكم أرق الناس قلوباً قال نعم والله لقد تركت ثلاثين شاباً في الحي قد خامرهم الموت ما لهم داء إلا الحب وقال رجل من بني قزارة لرجل من بني عذرة تعدون موتكم بالحب مزية وفضيلة وإنما ذلك ضعف بنيه وضيق روية ورق وخور تجدونه فيكم يا بني عذرة فقال له والله لو رأيتم النواظر الدعج من فوقها الحواجب الزج من تحتها المباسم الفلج والشفاه السمر تفتر عن الثنيايا الغر لا تخذتموها اللات والعزى ثم أنشد:

تتبعت مرمى الوحش حتى رميتني ... من النيل لا بالطائشات الخواطف

ضعائف يقتلن الرجال بلا دم ... فيا عجباً للقاتلات الضعائف

وقيل بعضهم ما كنت صانعاً لو ظفرت بمن تحب فقال أحل الخمار وأحرم ما وراء الأزار وأظهر للحب ما يرضي الرب وقال الحافظ أبو محمد الاموي أن امرأة يثق بها حدثته أن فتى علقها وعلقته وشاع أمرهما فاجتمعا يوماً خاليين فقال لها هلمي نحقق ما يقال فينا فقالت لا والله لا كان هذا أبداً وأنا أقرأ " الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " وقيل لبعضهم وقد طال عشقه لجارية من قومه ما أنت صانع إن ظفرت بها ولا يراكما إلا الله قال والله لا جعلته أهون الناظرين لا أفعل بها خالياً إلا ما أفعله بحضرة أهلها حنين طويل ولحظ من بعيد وأترك ما يكره الرب ويفسد الحب وقيل لآخر ما كنت صانعاً لو ظفرت بمحبوتك فقال ضمها ولثهما وعصيان الشيطان في أثمها ولا أفسد عشق عشرين سنة بلذة ساعة تفني ويبقى حسابها إني إن فعلت هذا اللئيم ولم يلدني كريم قلت وممن اتصف من العفاف بأحسن الأوصاف من الخلفاء هرون الرشيد وذلك أنه عشق جارية فلما راودها عن نفسها قالت إن أباك ألم بي فتركها وشغف بها حتى كاد يخرج عى وجهه فكان ينشد:

أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورد

<<  <   >  >>