ولإبن زيدون قوله في المرقص:
أضحى تنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
من مُبلغ الملبسينا بإنتزاحهم ... حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
إن الزمان الذي قد كان يضحكنا ... أنساً بقربهم اد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغَصّ فقال الدهر آمينا
فأنحل ما كان معقوداً بأنفسنا ... وأنبت ما كان موصولاً بأيدينا
بالأمس كنا وما يخشى تفقنا ... فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
يا ليت شعري ولم أعاديكم ... هل نال حظاً من العتبى أعادينا
لم نعقد بعدكم إلا الوفاء لكم ... رأياً ولم نتقلد غيره دينا
كنا نرى اليأس تسلينا عوارضه ... وقد يئسنا، فما لليأس يغرينا
بنتم وبنا فما إبتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
كاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى، لولا تآسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت ... سواداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
إذ جانب العيش طلقٌ من تآلفنا ... ومورد اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا فنون الوصل دانية ... قطوفها فجنينا منه ما شينا
ليُسقَ عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيّرنا ... إذ طالما غيّر النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ... منكم ولا إنصرف عنكم أمانينا
ثم قال:
يا ساريّ البرق غادِ القصر فاسقِ به ... من كان صِرف الهوى والود يسقينا
وأسأل هنالك هل عنّى تذكرنا ... إلفاً تذكره أمسى يعنّينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حياً كان يحيينا
وبيت مثلك كأن الله أنشأه ... مسكاً وقد أنشأ الله الورى طينا
أو صاغ ورقاً محضاً وتوجّه ... من ناصع إبداعاً وتحسينا
إذا تأوّد آدته رفاهية ... تدمى العقول وأدمته البُرى لينا
كانت له الشمس ظِئراً في تكلله ... بل ما تجلى بها إلا أحايينا
كأنما نبتت في صحن وجنته ... زُهر الكواكب تعويذاً وتزيينا
ما ضرّ روضة طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جناه الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياةً تملأنا بزهرتها ... مثنى ضروباً ولذاتٍ أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من نضارته ... في وشي سحبنا ذيله حينا
لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة ... فقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
إذا إنفردتِ وما شوركت في صفة ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا
* * *
يا جنة الخلد أبدِ لنا بسلسَلها ... والكوثر العذب زقوّماً وغِسلينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غضّ من أجفان واشينا
سِران في خاطر الظلماء تكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لا غرو في إن ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك فلم نعدِل بمشربه ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
لم نجف أفق جمال أنت ككبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا إختياراً تجنينا عن كثبٍ ... لكن عدتنا على كسره عوادينا
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة ... فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح من شمائلنا ... سيما إرتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظة ... فالحر من دان إنصافاً كما دينا