وإِنما كانت الأَلفاظ المغيرة تعطي في المعنى أَمراً زائدا لموضع الغرابة فيها. فإِنه كما يعرض لأَهل المدينة أَن يتعجبوا من الغرباء الواردين عليهم، وتخشع لهم أَنفسهم، كذلك الأَمر في الأَلفاظ الغريبة عند ورودها على الأَسماع. فينبغي لمن أَراد أَن يجيد القول في هاتين الصناعتين أَن يجعله غريبا. والأَلفاظ الغريبة تتفاضل بالأَقل والأَكثر فيما تخيل في المعنى الواحد بعينه من الرفعة والخسة، لتفاضلها في الغرابة. والصناعة الشعرية فتستعمل من ذلك ما هو أَكثر تخييلا. وأَما صناعة الخطابة، فإِنها تستعمل من ذلك ما هو أَقل وبمقدار ما يليق بها، وذلك هو القدر الذي يفيد وقوع الإِقناع في الشيءِ المتكلم فيه. فإِن ذلك أَيضا يتافضل في صناعة الخطابة بحسب اختلاف ما فيه القول. مثال ذلك ما يحكى أَن المنصور لما دخل الكعبة رأَى رجلا قد سبقه بالدخول، وقد كان أَمر أَلا يدخل إِليها أَحد قبله من العامة، فقال له: أَما سمعت النداءَ؟ فقال: بلى! فقال: أَو ما تعرفني؟ فقال بلى. فقال له: فكيف تجاسرت؟ فقال له الرجل: وكيف لا أَتجاسر عليك؟ ! وهل أَنت في أَول أَمرك إِلا نطفة مذرة؟ وفي آخر أَمرك إِلا جيفة قذرة، وأَنت فيما بين هذين تحمل العذرة؟! فخلى عنه، إِذ صغرت بهذا القول عنده نفسه، أَعني نفس المنصور. زقد كان له أَن يستعمل معه تغييرات هي أَقل في التحقير من هذه، مثل أَن يقول له: وهل أَنت إِلا ملك من الملوك، أَو هل أَنت إِلا رجل من الناس، أَو هل أَنت إِلا عبد من عبيد الله. فإِن هذه كلها متفاضلة في التصغير. إِلا أَنه يشبه أَنه ما كان ينجو من سطوته إِلا بمثل هذا التصغير الذي استعمل معه. فإِنه قول مخسس جدا.
قال أَرسطو: والخطباءُ ربما استعملوا أَثناءَ خطبهم التغييرات الشعرية، أَعني البعيدة، فيتوهم من ليس له بصر بالفرق بين التغيير الشعري والخطبي أَن ذلك الفعل الصادر عن ذلك التغيير هو من فعل الأَقاويل الخطبية، وليس الأَمر كذلك. وإِنما مثال ذلك مثل من يخلط سَقَمونيا بشراب الورد. فإِذا أَسهل ذلك الشراب، أَوهم أَن ذلك الإِسهال إِنما كان عن فعل شراب الورد عند من لا معرفة له بقوة الورد. وكذلك الشاعر أَيضا ربما أَلَّف من الأَلفاظ المستولية المعهودة قولا موزونا فأَوهم أَنه شعري وليس بشعري وإِذ قد تبين أَن الفضيلة في القول الخطبي أَن يستعمل التغيير، وتبين بالجملة أَي مقدار ينبغي أَن يستعمل منه فينبغي أَن نقول في مقدار ما تستعمله في واحد واحد من أَصناف الأَلفاظ المفردة السبعة، أَعني ما عدى المستولية. فإِن التغيير يقال عليها بعموم وخصوص. فنقول: أَما اللغات والمركبات فينبغي أَن يقلل من استعمالها الخطيبُ. وإِذا استعملها، فلا يستعمل منها ما يخيل في الشيءِ معنى مفرطا، مثل الأَسماء الغريبة عن لسان أُمة ما أَو الأَسماء المركبة الدالة على معان تخيل في الشيءِ المدلول بها عليه أَمراً زائدا ومفرطا عما تقتضيه صناعة الخطابة، وبخاصة في الخطب التي يقصد بها إِقناع الجميع. فإِن أَمثال هذه الخطب إِنما ينبغي أَن تؤلف من المستولية والغير المشتركة الأَلفاظ وهي التي تعرف بالأَهلية.
ومن المغيرات الغريبة: التغييرُ بخلاف الأَمر في الشعر وبخلاف الأَمر أَيضا في الخطب التي يقصد بها إِقناع خواص من الناس. فإِن هذه، الغرابةُ ينبغي أَن تكون فيها أَكثر. والاسم المشترك أَخص بها من الأَهلي؛ وبخاصة القول الشعري، فإِنه ينبغي أَن يجمع الغرابة من جميع الجهات، وفي الغاية. مثل أَن يكون بأَلفاظ مغيرة في الغاية، وأَلفاظ غريبة في الغاية، ومشتركة. والمشتركة أَخص بالسفسطة من غيرها من الصنائع. والخطيب يستعملها بقدر ما يستعمل من المغالطة في هذه الصناعة، على ما سلف. وأَما الأَسماءُ المترادفة فصالحة جدا لصناعة الشعر، وقد تصلح أَيضا لصناعة الخطابة. والشاعر يستعمل هذا الصنف لأَسباب أَخصها به استعمالها لتصحيح الوزن وللقافية، مثل قوله: