والأَقاويل الخلقية إِنما تكون مقنعة إِذا دل عليها بأَلفاظ دالة بصيغها على الحث على الأَخلاق، لا بأَلفاظ لا تدل بصيغتها على ذلك الخلق، ولا على ذلك الانفعال. وإِنما تكون الأَقاويل الخلقية أَشد إِقناعا بالأَلفاظ الخاصة بها، لأَنه بهذه الأَلفاظ تتمكن من النفس، ويحسن موقعها منها، فيظن بها أَنها الحق. إِذ من خاصة الحق أَن يتمكن من النفس، ويحسن موقعه منها، فتغلط النفس في هذا، ويضللها موضع اللاحق. وأَيضا فإِذا كان السامع قد ينفعل عن المخاطب له بالانفعالات التي من خارج مثل انفعالات الوجه وغير ذلك من الأُمور التي قد عددت، فكم بالحري أَن ينفعل أَو يتخلق من قبل الأَلفاظ التي تدل بصيغتها على ذلك الخلق أَو الانفعال.
وقد تبين مما قيل أَن الأَخلاق والانفعالات تشاكل كل جنس وهمة وأَعني بالجنس مثل الغلام والشيخ والمرأَة والرجل والعربي والرومي، وأَعني بالهمة الشيءَ الذي هو مقصود لأُمة أُمة من الأُمم في حياتهم الدنيا مثل الحكمة عند قوم، والمال عند قوم آخرين، واللهو عند آخرين، وغير ذلك من الأَشياءِ التي يمكن أَن تفرض غاية قصوى. والصنائع أَيضا والمهن لها تأْثير في الاستعداد لقبول خلق خلق، وانفعال انفعال، فينبغي للخطيب أَن يتحرى اللاحق لكل إِنسان من الأَخلاق والانفعالات فيحثه عليه. فإِنه إِذا تعمد ذلك، كان فعله أَبلغ. ومما ينبغي له أَن يقصده: وهو أَن يخاطب أَهل كل صناعة بالأَلفاظ الخلقية التي هي مشهورة عند أَهل تلك الصناعة، مثل أَن يخاطب الحكماءَ بالأَلفاظ الخلقية التي هي مشهورة عند الحكماءِ، وكذلك في صناعة صناعة. فإِن هذا الفعل له موقع عظيم في الإِقناع. والأَقاويل الخلقية ليست هي الأَقاويل الانفعالية، ولا المواد التي تعمل منها هي واحدة بعينها. وإِن كان قد يوجد عن الخلقية شيء من الانفعال، مثل قول القائل: ومَن لا يعرف هذا؟ كل الناس يعرفون هذا. فإِن هذا قد يقر به السائل استحياءَ من أَن يسئل كيف وجب ذلك. والاستحياء انفعال ما. فيستعمل الأَقاويل الخلقية في الموضع اللائق بها، والانفعالية في الموضع اللائق بها أَيضا.
وينبغي للخطيب قبل ذلك فيما بينه وبين نفسه أَن يتقدم فيروّى في الطرق والوجوه التي بها يقنع السامعين، فإِن بذلك يكون إِقناعه أَبين وليس يذهب عنه ما يريد أَن يتكلم فيه.
وقد أَوصى الجدلي بمثل هذه الوصية في المقالة الثامنة من طوبيقى. وليس ينبغي للخطيب أَن يجعل أَقاويله كلها بأَلفاظ من جنس واحد، حتى تكون كلها بأَلفاظ مستعارة أَو غريبة أَو مشهورة، بل ينبغي أَن يخلط ذلك، فإِن بذلك يكون القول أَشد تخييلا، لأَنه إِذا أَتى بها من جنس واحد، ولم يكن منها شيء غريب، لم يفد ذلك غرابة ولا تعجبا يحرك النفس، وإِنما يظهر فضل القول المخيل على القول المشهور، إِذا قرن به. وكذلك القول الغريب. فإِذا أَتى بها كلها من جنس واحد أَشبهت المألوف. ولم تكن هنالك غرابة تحرك النفس.