للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ومما ينفع في جودة تفهيم المعنى وتكثير القول - إِذا كان مقصوداً للخطيب - أَن يستعمل الأَقاويل الشارحة مكان الأَسماء المفردة. وأَما إِذا كان قصده الإِيجاز، فينبغي أَن يستعمل ضد ذلك. وقد ينتفع الخطيب بهذا الإِبدال، أَعني إِبدال القول مكان الاسم، والاسم مكان القول. فإِنه إِذا كان الشيء له صفة قبيحة، فالواجب على الخطيب أَن يبدل مكان ذلك القول الدال على الصفة الاسم. وكذلك إِن كان الاسم يخيل في المعنى قبحا، فينبغي أَن يبدل بالقول المساوي له. واستعمال الأَقاويل بدل الأَسماء مما ينفع في تكثير القول. والأَقاويل المبدلة بدل الأَسماء هي التي تؤلف من أَغراض الشيءِ والأَفعال الصادرة على جهة الخزاية. والقول المبدل قد يمكن أَن يجعل قصيرا، ويمكن أَن يكون طويلا. والأَقاويل المبدلة شعرية أَكثر ذلك، وقد يتجنبها الشعراءُ، وذلك بحسب ما يقصد من إِطالة القول واختصاره. فقد يقصد الشاعر وصف شيء واحد فيجعل بدله أَقاويل كثيرة؛ وقد يقصد وصف أَشياء كثيرة فيجعل بدلها قولا واحدا، إِذا أَراد الاختصار. وربما جعل بدل كل واحد منها قولا إِذا أَراد الإِطناب.

ومما يصير به القول مختصراً أَن يجعل غير مربوط بعضه ببعض. والقول الغير المربوط هو الذي إِذا ابتدئ به أَردف بما ليس من شأنه أَن يتصل به بل يحتاج أَن يدخل بينه وبين الذي أَردف به متوسط. فإِذا حذف ذلك المتوسط، كان القول غير مربوط حتى يخيل أَن القول الأَول من غير جنس الثاني. وهذا هو من نمط الكلام الذي يعرف بالفصول. وهذا النوع من الكلام الغير المربوط ليس يعدم فيه حروف الروابط. وإِن كان قد يكون نوع آخر من الكلام غير مربوط من جهة عدم حروف الروابط فيه أَصلا على ما تقدم. فيكون القول الغير المربوط صنفين: صنف عدم حروف الرباط، وصنف عدم المتوسطات التي بين أَجزاءِ القول.

قال أَبو نصر: ويكاد أَن يكون خطباءُ العرب يرون أَن البلاغة إِنما هي استعمال القول الغير المربوط.

وأَما الأَلفاظ المعدولة والأَسماءُ الغير المحصلة والكلم الغير المحصلة، وبالجملة السلوب كلها والأَلفاظ التي تدل على العدم لا على ذوات الأَشياءِ، فإِنما ينبغي أَن تستعمل أَكثر ذلك عند التعريض، وعند إِرادة إِخفاءِ الشيءِ وستره، وهي شعرية أَكثر منها خطبية، وبخاصة ما كان منها مفرط الدلالة، فإِنها لا تدل على شيء محصل. فلذلك إِن استعملها الخطيب في المدح أَو الذم، لم يذم بشيء محصل ولا مدح بشيء محصل. فلذلك لا ينتفع به الممدوح ولا يستضر به المذموم ذلك الضرر. وكذلك أَيضا قل ما ينتفع به في المشوريات ولا في المشاجريات. اللهم إِلا في الاعتذار فإِنه قد ينتفع به.

قال: والمقالة إِنما تكون جميلة إِذا كانت بأَلفاظ مخيلة، خلقية، موجهة نحو الأَمر المقصود، معتدلة. وأَعني بقولي خلقية أَي بأَلفاظ تحث على الخلق الذي شأنه أَن يصدر عنه ذلك الفعل الذي يقصد المتكلم الحث عليه. فإِن هاهنا أَلفاظا يحث بها على الأَخلاق والانفعالات النفسانية، مثل قولهم: أَلا رجل يفعل كذا وكذا، وهلا كان كذا وكذا. وأَعني بقولي موجهة نحو الأَمر المقصود أَن يكون الخلق أَو الانفعال الذي يحث عليه مما شأنه أَن يصدر عنه ذلك الفعل المقصود. وأَعني بقولي معتدلة أَلا تخيل في المخاطب أَخلاقا هي أَرفع جدا منه، فيقل تخلقه أَو انفعاله عن ذلك القول، ولا أَخلاقا هي أَخس منه جدا، بل تخيل فيه أَخلاقا تليق به. ومما يصير القول خسيسا أَن يعبر عنه بالأَلفاظ الأَهلية المستولية، ولا يعبر عنه بالكلية، بل بأُمور مفصلة. وبالجملة ينبغي أَلا يقتصر من الأَلفاظ على أَن تكون مزينة بالنغم فقط أَو بسائر الأُمور التي من خارج، وهي التي تعرف بالأَخذ بالوجوه، بل ينبغي أَن تكون مع هذا في نفسها مخيلة. والأَقاويل الخلقية إِذا كانت مذكّرة بالعار والمنقصة كانت محركة للغضب. وإِذا كانت مذكرة بالآلام وتعظيم الشيءِ كانت باعثة على التوقي والحذر والتعسر في الشيءِ وأَلا يعطى المرءُ من نفسه ما يطلب منه. وإِذا كانت بالمديح كانت مستدرجة نحو الشيء المقصود فعله ومسهلة له، وإِذا كانت بما يضاد المديح كانت محركة للهم والجزع.

<<  <   >  >>