للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والوصية الرابعة: أَن يتحفظ بأَشكال الأَلفاظ الدالة على المذكر والمؤنث فلا يستعمل شكلا دالا على التذكير في المعنى المؤنث، ولا شكلا دالا على التأنيث في المعنى المذكر. والتذكير والتأنيث في المعاني إِنما يوجد في الحيوان، ثم قد يتجوز في ذلك في بعض الأَلسنة، فيعبر عن بعض الموجودات بالأَلفاظ التي أَشكالها أَشكال مؤنثة وعن بعضا بالتي أَشكالها أَشكال مذكرة. وفي بعض الأَلسنة ليس يلفي فيه للمذكر والمؤنث شكل خاص، كمثل ما حكي أَنه يوجد في لسان الفرس. وهذا يوجد في الأَسماءِ والحروف. وقد يوجد في بعض الأَلسنة أَسماء هي وسط بين المذكر والمؤنث، على ما حكى أَنه يوجد كذلك في اليونانية. ويحتاج مع هذا في هذه الأَسماءِ أَن تكون نهاياتها مشكلة بالأَشكال التي بها جرت عادة أُولئك القوم، أَعني أَن تكون معربة بالإِعراب الذي جرت به عادة أَهل ذلك اللسان أَن يعربوا نهايات هذا الصنف من الأَسماءِ في موضع موضع من القول أَو مبنية بالبناءِ الذي يخصها.

والوصية الخامسة: أَن يتحفظ باستعمال أَشكال الأَسماء الدالة على الواحد والإِثنينية والكثير. ويتحفظ بأَصناف الأَسماء الدالة على الكثير، وذلك أَن منها ما يدل على العشرة فما دونها مثل صيغة أَفعل في الجمع، كقولك بحر وأَبحر وجبل وأَجبل، ومنها ما يدل على الكثير، كقولك جبال وبحار. فإِن أَبنية هذه الأَسماء مختلفة. فينبغي للخطيب أَن يتحفظ بها وأَن يستعمل كل شكل منها في موضعه، وأَن يجعل نهاياتها في القول مختلفة، كما قلنا، بالاختلاف الذي جرت به عادة أَهل ذلك اللسان عند اختلاف أَحوال القول، وهو الذي يسمى الإِعراب عند نحويي العرب، والاستقامة عند نحويي اليونانيين.

ووصية سادسة: وهو أَنه ينبغي أَن يكون الكلام المكتوب مما يسهل تفهم معناه عند قراءته؛ ويكون المتلو مما يسهل تفسيره. والكلام المقروء إِنما يسهل تفهم معناه في وقت قراءته بأَن تكون فيه علامات للاتصال والانفصال. وذلك شيء لم يوضع بعد في خط لسان العرب. وهو موجود في كثير من خطوط سائر الأَلسنة. والكلام المتلو الذي يعسر تفهم معناه هو الكلام الكثير الرباطات، وهو الذي يعرف بالكلام المعقد. فإِن استعمال الرباطات في الكلام ينبغي أَن يكون مقدراً. فإِن عدمها في الكلام جملة يوجب عدم فهم اتصاله، كما أَن كثرتها توجب عدم فهم الانفصال. ومن ذلك أَن يتجنب في الأَقاويل المركبة الأَلفاظ التي إِذا نطق بها لم يدر هل تتصل بالجزءِ الأَول من القول أَم بالجزءِ الأَخير، مثل قول القائل: إِن هذه الكلمة إِذا كانت بالديمومة تكون للرجل الحكيم. فإِن قولنا بالديمومة يحتمل أَن تكون من صفة الكلمة حتى يكون تقدير ذلك أَن هذه الكلمة إِذا كانت بالديمومة فإِنها تكون للرجل الحكيم؛ ويحتمل أَن يكون قولنا بالديمومة من صفة الرجل الحكيم، فلا يكون القول تاما ويحتاج إِلى جواب، ويكون التقدير: أَن هذه الكلمة إِذا كانت للرجل الحكيم بالديمومة، فيحتاج إِلى خبر. وسبب هذا الإِشكال عدم علامة الاتصال والانفصال.

ومن ذلك: إِذا اتفق أَن كان شيئان داخلين تحت جنسين، فأَردنا العبارة عن كل واحد منهما بما يخصه، فينبغي أَن نجعل العبارة عن كل واحد منهما باللفظ الذي يخصه. وإِن أَردنا أَن نجمع بينهما جعلنا العبارة عنهما بما يعمهما. مثال ذلك: إِذا أَردنا أَن نعبر عن فعل البصر بما يخصه قلنا أَبصرنا. وإِذا قلنا عن فعل السمع قلنا سمعنا. فإِن أَردنا أَن نجمع بينهما قلنا أَحسسنا. فإِن عبرنا عن فعل البصر فقط أَو السمع فقط بالإِحساس، كانت تلك عبارة رديئة.

ومما يعسر فهم الأَخبار عن شيء يُقصد الإِخبار عنه أَن يُدخل المخبر بين الخبر والمخبر عنه كلاماً كثيرا، مثل قولك: إِني كنت مزمعا حين تكلمت فكان هاهنا كذا وكذا بحال كذا وكذا على أَن أَفعل كذا وكذا. يريد أَني كنت مزمعا حين تكلمت على أَن أَفعل كذا وكذا فإِدخال مثل هذا في الوسط مما يعسر به تفهم المعنى. إِلا أَنه قد ينتفع به في الخطابة، عندما يريد الخطيب تكثير القول وغزارة الأَلفاظ. وذلك أَنه لو أَتى بمثل هذا الحشو أَخيراً، لتبين على المكان أَنه فضل. فإِذا أَتى به في الوسط أَوهم السامعين أَنه مما يحتاج إِليه. وأَما إِذا كان الخطيب قصده الإِيجاز فليس ينبغي أَن يأتي بمثل هذا الحشو.

<<  <   >  >>