فأَول الأَشياء التي يجب أَن يتحفظ بها ليكون القول أَتم دلالة وإِفادة للمعاني وضع حروف الرباطات في المواضع التي يجب أَن تكون فيها من القول. والروابط هي بالجملة الحروف التي يرتبط بها القول وتتصل أَجزاؤه بعضها ببعض. وقد عدد أَبو نصر أَصنافها في غير ما موضع. فإِن منها ما شأنه أَن يوضع في أِول القول مثل الروابط التي تتضمن إِيجاب معنى لمعنى مثل حروف الشرط والمجازاة، ومثل حروف الاستفهام والشك. ومنها ما شأنه أَن يوضع في وسط القول مثل الواو والفاء وثم. ومنها ما شأنه أَن وضع في آخر القول وهي حروف العلة والسبب، مثل قولك: أَكرمت زيدا لجوده. فإِنه أَفصح في كلام العرب من أَن تقول: لجوده أَكرمت زيدا، أَو أَكرمت لجوده زيدا. وذلك بين في لسانهم. فينبغي للخطيب أَن يرتب هذه الروابط في المواضع التي بها يكون الكلام أَفصح في ذلك اللسان. وأَيضا فإِن من الروابط ما يقتضي أَن يتصل باللفظ الذي يتصل به الرباط لفظ آخر غير الذي قرن به الرباط، وهذا يسمى جزاء وقضاء. ومن شأَن هذا المتصل في بعض المواضع أَن يكون قبل الرباط، ومن شأَنه في بعضها أَن يكون بعد الرباط. فينبغي أَن يوضع حرف الجزاء في أَمثال هذه الأَقاويل في المواضع التي شأنها أَن توضع، وذلك إِما متقدما للفظ المتصل باللفظ الذي يقترن به الرباط، وإِما متأخرا. مثال ما يكون الجزاءُ فيه متأَخرا عن اللفظ المقترن بالرباط قولك: أَما زيد فمنطلق، وأَما عمرو فقاعد. وأَما استعمال القول الذي يقتضي الجزاء والقضاء محلولا دون روابط، فينبغي أَن يجتنب. وإِذا استعمل ذلك فينبغي أَلا يباعد بين الجزاءِ وبين المجازى به بكلام كثير يدخله أَثناء ذلك. وأَيضا فإِن من الرباطات ما يقتضي أَن يكون بعده رباط آخر، وذلك إِما من نوعه بأَن يتكرر الرباط نفسه مثل إِما المكسورة، وإِما من غير نوعه مثل أم التي تأتي بعدها هل في الاستفهام. فينبغي في أَمثال هذه المواضع أَلا يدخل بين الرباط الأَول والثاني رباط آخر ليس شأنه أَن يقع بينهما. فإِن هذا يجعل القول متعلقا غير مفهوم. وقد يحسن أَن يدخل بين الرباط الأَول والثاني في مواضع يسيرة رباط آخر غريب، مثل قول القائل: أَما أَنا فلأجل كذا فعلت كذا وكذا، وأَما فلان فلأجل كذا فعل كذا وكذا. فيحسن دخول الرباط الدال على العلة، وهو قولك لأَجل كذا بين أَما الأُولى وأَما الثانية التي تقتضي إِحداهما الأُخرى. وقد يؤتى بالرباط الغريب في مثل هذا الموضع في أَجزاءِ القول، كقول القائل: أَما فلان ففعل كذا، وأَما فلان ففعل كذا وكذا، ولأَجل كذا وكذا. ويعسر إِعطاء قانون يعرف أَين ينبغي أَن ترتيب أَمثال هذه الرباطات الغريبة في موع موضع من أَجزاءِ أَمثال هذه الأَقاويل. وانما ينبغي أَن يتحرى في ذلك ما يكون القول به أَتم إِبانة في الكلام. وكذلك قد يصلح في مواضع يسيرة أَن يباعد بين الرباط وبين جزائه. فهذه هي أُول الوصايا التي أَوصى ها من أَراد أَن يتأَدببلسان أُمة ما حتى يقومه.
والوصية الثانية: أَن يتوخى الخطيب أَن يكون كلامه بالأَسماءِ الأَهلية الخاصة بالأَمر المقول، أَعني المتواطئة، لا بالأَسماءِ العامة المحيطة.
والوصية الثالثة: أَلا يكون الكلام بالأَسماءِ المشككة التي توهم الشيءَ وضده وتضلل السامع. وهذه الأَسماءُ هي خاصة بالسوفسطائية، وهي بصناعة الشعر أَخص منها بهذه الصناعة.
قال: والكهان إِنما كانوا ينطقون بأَمثال هذه الأَسماء، لأَن الوقوف على خطائهم، إِذا نطقوا بمثل هذه الأَسماء، يقل، لاحتمالها معنى أَكثر من واحد، كما عرض لرجل من الكهان مع بعض الملوك، فإِنه قال: إِذا عبرت النهر الفلاني، أَتلفت رياسة عظيمة، فظن ذلك أَنها رياسة بعض أَعدائه. فلما عبر النهر ظفر به عدوه وهلك، فكان الذي أَتلف رياسة نفسه. فإِذا نطقوا بالأَسماءِ الأَهلية - أَعني الكهان - وحددوا الوقت والكمية فإِن الخطأ يعرض لهم كثيرا.