للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والثالث: أَن القول الموزون إِذا ابتدأَ القائل بصدره، فهم منه السامع عجزه للمناسبة التي بينهما والمشاكلة قبل أَن ينطق به القائل. وإِذا نطق به بعد، فكأَنه لم يأت بشيءٍ لم يكن عند السامع قبل، فيقل لذلك إِقناعه. ولما كانت الأَقاويل المركبة على ثلاثة أَصناف: إِما أَقاويل موزونة وهي التي يجتمع فيها الإِيقاع والعدد، وإِما أَقاويل لا يكون بين أَلفاظها المفردة أَزمنة، فينتهي بها كل لفظة منها عند السامع، أَو علامات تدل على ماهيتها. وهذا هو الذي يعرفه أَرسطو باللفظ السخيف. وإِما أَقاويل تكون بين أَلفاظها المفردة أَحوال تنهيها عند السامع وتفصلها، وذلك إِما بسكنات أَو نبرات. إِلا أَنها ليست نبرات تجعل القول موزونا فإِن الوزن إِنما يتم بالنبرات والوقفات التي تكون بين المقاطع والأَرجل وبالعدد، أَعني أَن تكون حروف المصرع الأَول في البيت مساوية لحروف المصرع الثاني. وكأَن قد ظهر أَن الأَقاويل الموزونة ليست بمقنعة، فكذلك يظهر أَيضا في الأَقاويل التي ليس بينها نبرات - بل هي متناسقة - أَنها قليلة الإِقناع. وذلك لسببين: أَما أَحدهما فلأَن الأَلفاظ إِذا لم يكن بينها فصول زمانية عسر فهم تلك المعاني، لأَنها إِذا وردت مشافعة في الذهن، لم يتمكن الذهن من فهم واحد منها حتى يرد عليه آخر، شبيه ما يعرض لمن يحب أَن يتناول شيئا من أَشياء سريعة الحركة، فإِنه لا يتمكن منها. وأَما الثاني فإِن القول يكون بها غير لذيذ المسموع، لأَنه إِنما يلتذ السمع بالنبرات والوقفات التي بين أَجزاءِ القول. وأَيضا فلكون الفصول التي في أَمثال هذه الأَقاويل متساوية لتقاربها فهي مملولة، لأَن اللذة إِنما هي في الانتقال من جنس إِلى جنس. وإِذا كان هذا هكذا، فلم يبق أَن تكون أَجزاء القول الخطبي إِلا القسم الثالث من الأَقسام وهو الذي يكون بين أَجزائه نبرات ووقفات لا تخرج القول إِلى أَن يكون بها موزونا. وبالجملة إِنما ينبغي أَن تكون النبرات والفصول في القول الخطبي بقدر ما تتمكن النفس من فهمه، وذلك لا شك مختلف باختلاف الأَقاويل. فإِن من الأَقاويل ما ينبغي أَن يباعد بين أَجزائها، ومنها ما لا ينبغي أَن يفعل ذلك فيها أَكثر. والنبرات تستعمل إِما في إِبعاد ما بين الأَقاويل وإِما في إِبعاد ما بين الأَلفاظ المفردة، وإِما في إِبعاد ما بين الأَرجل والمقاطع، وإِما في إِبعاد ما بين الحروف. والتي تستعمل منها في إِبعاد ما بين الأَرجل والمقاطع تخص الوزن الشعري. والتي تستعمل منها في إِبعاد ما بين الحروف تخص الأَغاني. فإِن الذي يخص الأَقاويل الخطبية من ذلك ما كان مستعملا في إِبعاد ما بين الأَلفاظ المفردة والأَقاويل.

<<  <   >  >>