وأَما استعمالها في الأَقاويل المكتوبة، وهي الرسائل، فيقبح. فإِنه ليس ما يوافق الخطب الغير المكتوبة من هذه الأَشياء يوافق المكتوبة، ولا ما يوافق من ذلك الخطب المشورية يوافق الخطب المشاجرية. ولذلك ما يجب أَن يعرف ذلك، فنقول: إِن وكد المتكلم بالكلام البلاغي الغير المكتوب أَما إِن كان متكلما فأَن يحسن الاستدلال والإِثبات، وإِن كان مجيبا فأَلا يضطر إِلى السكوت والانقطاع. وأَما الأَقاويل المكتوبة، فينبغي أَن تكون أَشد تصحيحا وتحقيقا من الأَقاويل الغير المكتوبة، لكون المكتوبة تبقى مخلدة وتلك تنقضي بانقضاءِ القول فيها. والمنازعة والمشاجرة أَحوج إِلى الأَخذ بالوجوه وهي بها أَخص، أَعني الانفعالي والخلقي. لأَن الأَخذ بالوجوه نوعان: أَحدهما يوجب انفعالا ما من السامع، والآخر خلقا ما.
قال: والذين اعتادوا هذا النوع من الإِقناع يطلبون الكتب المثبتة فيها أَنواع الأَخذ بالوجوه أَكثر من طلبهم الكتب المثبتة فيها أَنواع المعاني والأَلفاظ. وهذا موجود في الصنفين جميعا، أَعني الشعراء والخطباء.
قال: والأَقاويل المسموعة تنسى ولا تثبت فلا يتوجه إِليها من النقد ما يتوجه إِلى الأَقاويل المكتوبة، ولذلك ليس يلزم من تصحيحها ما يلزم من تصحيح الأَقاويل المكتوبة. ولاختلاف هذه الأَنواع كان كثير من الكتاب المجيدين إِذا حاولوا الإِقناع بالقول لا يجيدون الكلام، ومن الخطباءِ أَيضا من يجيد الإِقناع من غير أَن يكون لهم حذق بالأَخذ بالوجوه بأَيديهم وغير ذلك من جوارحهم. والعلة في ذلك أَنهم لم يزاولوا الأَقاويل الخصومية. فإِن الأَقاويل التي تستعمل في الخصومات شديدة المشاكلة للأَخذ بالوجوه. ولذلك إِذا طرحت منه، ظهر تكلم المتكلمين بها غير مستقيم. وذلك أَنه قد يكون الكلام كثيرا فيها محذوف الرباطات ومكررا. وهذا غير جائز في المكتوب، وهو جائز في الخصومات، وعند الأَخذ بالوجوه.
قال: والأَخذ بالوجوه إِذا خالطه التغيير اللفظي كان شديد التضليل للفكر والإِقناع، وذلك أَن الأَخذ بالوجوه يتنزل من القول المغير منزلة الموطئ والمستدرج. والمستعمل للأَخذ بالوجوه هو الذي يقدر أَن يبلغ بالتغيير من الإِقناع أَقصى ما في طباعه أَن يبلغ به، لأَن الأَخذ بالوجوه يحدث استجابة واستعطافا وأَما الذي لا يستعمل الأَخذ بالوجوه فكأَنه إِنما يسوق إِلى الإِقناع قسراً.
قال: وكذلك الكلام المحذوف الرباطات لا بد فيه من الأَخذ بالوجوه، وأَلا تقال تلك الأَلفاظ المحلولة بنغمة واحدة وهيئة واحدة، مثل قول القائل: لقيته، أَردته.
قال: وخاصة الكلام الغير المربوط أَنه إِذا كانت أَلفاظه متساوية النطق بها، أَعني في زمان سواء، فقد يظن بالقول الواحد أَنه كثير، لأَن الرباطات تجعل الكثرة واحدة. وإِذا حذفت صار الواحد كثيرا. وذلك نافع حيث يراد التعظيم والتكثير، مثل قول القائل: وردت. تكلمت. تضرعت؛ بدلا من قوله: وردت فتكلمت وتضرعت. فإِنه إِذا حذف الرباط في هذا أَوهم أَنه عمل كثيرا. وهذا قد يكون بالأَلفاظ المتقاربة المعاني وبتكرير الاسم الواحد بعينه مراراً. وذلك أَنه إِذا كرر اللفظ الواحد بعينه أَوهم الكثرة في المعنى. ومن هذا النحو هو استعمال الأَسماء المترادفة مثل قوله: أَقوى وأَقفر. وذكر أَن أُوميروش كان يستعمل مثل هذا القول محذوف الرباطات.
قال: والخطب المشورية، فقد يجب أَن تكون صدورها شبيهة بالرسم الذي يرسمه الزواقون للصورة قبل الصورة، يريد أَن يكون متضمنا للغرض المتكلم فيه بالمعنى الكلي. وهذا كثيراً ما يتوخاه الكتاب والخطباء.
قال: والعلة في ذاك أَن الإِفهام يجب أَن تكون العناية به في خطب المحافل والمجامع أَكثر منه في خطب الآحاد، لأَنه ينبغي أَن يكون الإِفهام فيها بحسب أَنقصهم فهما، حتى يستوي الكل في الفهم. وأَما إِقناع الجمهور فيكون بالمقنعات التي هي دون، بخلاف الأَمر في إِقناع الخواص