للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال: وإِنما يحسن وقوع هذه المقالة متى قيلت بإِيجاز وبالمقابلة بالتناقض، لأَن التفهيم يكون من طريق المقابلة التي فيه أَحْسَن، ويكون من جهة الإِيجاز أَسرع.

قال: ويجب في هذا الموضع إِما أَن يقرب القول من المعنى حتى لا يخفى، وإِما أَن يؤتى بالمعنى مستقيما، أَعني من غير أَن يؤتى فيه باللفظ المقابل، وأَن يكون، مع هذا القول الذي يغير بهذا النحو من التقابل، صادقا جدا، وليس فيه كذب أَصلا، وإِنما كان قول القائل: بأَن الواجب أَن يموت قبل أَن يستوجب الموت أَحسن في السمع وأَلذ من قول القائل: إِن الواجب علينا أَن نموت قبل أَن نحدث جُرْماً، من قبل أَمرين اثنين: أَحدهما تكرير اسم الواجب في القول، والثاني الإِتيان بالمقابلة. وإِنما ينفق هذا الموضع الذي ذكر، إِذا كان اشتراك في المتقابل الموضوع فيه، وكان المعنى المشترك الذي قصد فيه، أَعني الذي ليس هو بمقابل، ظاهراً جدا. وهذا هو معنى قوله: وينبغي أَن يقرب اللفظ من المعنى. وأَما إِذا كان خفيا في اللفظ فهو قبيح. ومن هذا الموضع عيب على أَبي العباس التطيلي الأَندلسي قوله:

أَما والهوى وهو إِحدى الملل ... لقد مال قدك حتى اعتدل

حَكَى لنا بعض أَصحابنا أَن الأَديب ابن سراج عابه عليه وكلمه في ذلك، فتمادى هو على استحسانه، علما منه بأَن الاعتدال يقال على استواءِ القامة ويقال على الحسن وأَنه هاهنا مفهوم لمكان مقابله. وابن سراج إِنما عابه لخفاءِ المعنى الذي قصده، وقلة استعمال هذا اللفظ عليه.

قال: وكما يكون التغيير في الأَفعال، كذلك يكون في الأَسماءِ وتكون فيها أَنواع التغييرات التي وصفنا، أَعني التغيير من المقابل، والتغيير من المناسب، والتغيير من الشبيه، والتغيير أَيضا بضرب الأَمثال. وهذه كلها إِذا ما استعملت على ما قلناه أَنجحت في هذه الصناعة نجحا كثيرا. فمثال التغيير الحسن على طريق المناسبة في الأَشياءِ أَنفسها التي ليست بمتنفسة قولهم في الترس " صحفة المريخ "، وفي القوس بلا وتر " رباب بلا شعر ". هذا إِذا استعمل هذا التغيير على جهة التركيب، أَعني على جهة المناسبة. وأَما إِذا استعمل على الإِطلاق، وهي جهة الشبه فقط لا جهة المناسبة، قيل في الترس إِنه صحفة وفي القوس إِنه رباب.

قال: وقد يجمع في التشبيه والتغيير صورة الشيء وفعله، كما قيل: إِنه يشبه قردا يزمر بأنبوب. والتشبيه إِنما يحسن جدا إِذا حسن أَن يوضع تغييرا واستعارة. وأَما إِذا لم يحسن فيه ذلك كان بعيدا ومتكلفا.

قال: ولذلك قد يخطئ الشعراءُ كثيرا في أَن يأتوا بالتشبيه الذي لا يحسن أَن يوضع للشيء على طريق التغيير، مثل قول القائل: إِن ساقيه جعدتان كالكرفس.

قال: وضروب هذه التغييرات هي كلها أَمثال. والأَمثال المقولة بخصوص هي تغييرات من الشيءِ إِلى الشبيه، فيستعملها المرءُ فيما يصيبه من خير أَو شر، يريد مثل الأَمثال المضروبة في كتاب دمنة وكليلة ومثل الجزئيات الواقعة التي ينقل القول الواقع فيها إِلى أُمور كثيرة لموضع الشبه، مثل قولهم: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا، وقد ساوى الماء الزبى؛ وبلغ الحزام الطُّبيين.

قال: فأَما من أَين تؤخذ التغييرات الحسا ولأَيى علة تكون حسانا فقد تبين من هذا القول. وهذا الذي ذكره هي مواضع الفصاحة وشروط الكلام الفصيح.

قال: والإِغرابات التي تنجح في هذه الصناعة من قبل التركيب الغير المعتاد في الأَقاويل هي أَيضا تغييرات، يريد بحسب التركيب لا بحسب الأَلفاظ المفردة، وذلك فيما أَحسب، مثل التقديم والتأخير والحذف والزيادة والإِغرابات الغريبة.

قال: ومن التغييرات أَيضا الإِفراطات في الأَقاويل والغلو فيها، وهي تدل من حال المتكلم على الفظاظة وصعوبة الأَخلاق والغضب المفرط، مثل قول القائل: ولا لو أَعطيت مثل هذا الرمل ذهبا أَفعل كذا وكذا، وكما قال بعضهم: ولا الزهرة الشبيهة بالذهب تعدل حسن هذه الفتاة. وهذا النوع من الكلام كثير في كلام العرب وأَشعارهم.

قال: والأَقاويل الغير المكتوبة هي أَخص بهذا الجنس من التغيير.

<<  <   >  >>