قال: والتغيير المستعمل في الأَفعال التي للمتنفسة قد يستعمل على جهة المناسبة والمعادلة في غير المتنفسة، مثل ما يقال في ترك الاستحياء والوقاحةِ، إِذ كانت هذه أَيضا أَفعال يذم بها، إِن الذي لا يستحي وعنده الذي يجب أَن يستحي منه بمنزلة الحجر عند الإِنسان. وهو عكس الأَول. فإِنه قد يكون مثل هذا التغيير، أَعني الذي بالمعادلة والمناسبة، في الأَمثال المنجحات في هذه الصناعة، وإِن كان في غير المتنفسة، أَعني أَنه يتمثل في المتنفسة بغير المتنفسة على جهة المعادلة، مثل ما يقال: إِن الفلاحين من المدينة بمنزلة الأَساس من الحائط، وإِن المقاتلة فيها بمنزلة الشوك من القنفذ، وإِن فلانا لقي من فلان مرارة الصبر وحلاوة الشهد، وذلك أَن معنى هذا أَنه لقي منه خلقا نسبته إِلى الخلق المكروه نسبة مرارة الصبر إِلى الأَشياءِ المرة.
قال: وبالجملة فينبغي أَن يكون التغيير المستعمل في الأَفعال مثل التغيير الذي وصفنا أَنه يجب أَن يستعمل في الأَشياء أَنفسها، أَعني في ذوات الأَفعال، وذلك بأَن يؤتى بالأَلفاظ المعتادة التي ليست معروفة كل المعرفة ولا أَيضا مجهولة كل الجهل، بل متوسطة فيما بين ذلك. فإِنه كما أَن استعمال الشبيه إِنما يكون نافعا جداً في الفلسفة، وفي هذه إِذا توخى مستعمله فيه أَن يكون بهذه الحال الوسطى من الجهل والمعرفة، كذلك الأَمر في الأَلفاظ أَنفسها.
قال: وقد يقع الإِقناع اللذيذ بالتغيير الذي يستعمل في الشيءِ على جهة الغلو والإِفراط، وذلك إِذا كان الأَمر الذي كان منه التغيير عجيبا بديعا إِلا إِنه كذب بين، مثل قولهم: هي ضرة الشمس وأُخت الزهرة أَو أَجمل من الزهرة وأَعلى موضعا من الشمس.
قال: وهذا النحو من التغيير هو مذموم في الخطب المكتوبة، يعني الرسائل.
قال: وقد يكون التغليط من قبل التغيير الذي يكون بالأَلفاظ المغلطة لذيذا، أَعني إِذا قصد المتكلم لتغليط السامع بها. وذلك يكون بوجهين: أَحدهما أَن يريد أَن يقول قولا عليه فيه إِنكار، فيستعير له اسما مشتركا يقال عليه وعلى معنى ليس فيه إِنكار عليه ويكون أَظهر في المعنى الذي ليس فيه عليه إِنكار منه في المعنى المنكر، فيعرض للسامع عند ذلك أَن يغلط فيغلب ظاهر اللفظ، ويأتي المتكلم بذلك في صورة من لا يتكلم في شيء وهو يتكلم فيه. وهذا مثل ما قيل في اليهود إِنها كانت تقول للنبي عليه السلام: راعنا، توهم بذلك أَرعنا السمع، وهي تريد غير ذلك، حتى نهى المسلمون عن هذه اللفظة. والوجه الثاني أَن يأتي بلفظة مشتركة تقال على معان بعضها كاذبة ومنكرة وبعضها صادقة، إِلا أَن دلالة اللفظ فيها هو على السواءِ أَو هو في الكاذبة أَظهر منه في الصادقة، وهو يقصد به المعنى الكاذب دون الصادق. فيمكن أَن يعتذر عنه بما تحت ذلك اللفظ من المعنى الصادق الذي لم يقصده، مثل أَن يقول قائل في ثلب رياسة الحكمة: إِن رياسة العلماءِ ليست برياسة. فإِن غلط في ذلك كان التغليط لذيذا، وإِن شعر بكونه كذبا، كان إِنكاره لذيذا ومقنعا. وإِن أَتى بالكاذب بلفظ غير محتمل، فلما عيب عليه أَنكر، لم يكن إِنكاره لذيذا ولا مقنعا. وهذا أَكثر ما يكون من قبل الأَلفاظ المشتركة، وقد يكون من قبل قرائن الأَحوال، مثل قول القائل لمن ينافره: ما أَبي بزان ولا أُمي بزانية. فإِن ظاهر القول أَنه نفى هذه الفواحش عن نفسه، وقرينة الحال تدل على أَنه أَثبتها لخصمه، إِذ كان قد وضع خصمه ضده. وثلب الضد يكون إِما بذاته، وإِما بمدح ضده. ولذلك اختلف الفقهاءُ في إِيجاب الحد في أَمثال هذه الأَقاويل وهي التي يعرفونها بالكنايات.
قال: ومما يجانس هذا، أَعني التغيير اللذيذ أَن يؤتى بالواجب بلفظ المستحيل، مثل قول القائل: إِنه يجب على المرءِ أَن يموت قبل أَن يستوجب الموت. فإِن صورة لفظ هذا القول هو أَن الإِنسان يجب عليه أَن يموت وليس مستوجبا للموت. وذلك كلام متقابل ومتناقض. لكن لما عبر بهذا القول الذي صورته صورة القول المتقابل عن معنى حق، وهو أَنه يجب على المرءِ أَن يموت قبل أَن يحدث جرما، كان بتلك العبارة أَلذ منه بهذه الأَلفاظ أَنفسها لكوْن هذه أَهلية وتلك غريبة.