قال: وبالجملة: فينبغي للمتكلم في الشيءِ على طريق البلاغة أَن يجعل الشيءَ الذي يتكلم فيه كأَنه مشاهدٌ بالبصر. وذلك بوصفه أَفعاله الواقعة أَو المتوقعة. والإِعتماد في جعل الشيء كأَنه نصب العين يكون بثلاث أَشياءِ: أَحدها التغيير الحسن، والثاني وضع مقابله حذاءه، والثالث وصف الأَفعال الواقعة والمترقبة الوقوع. ومثال وصف الأَفعال والإِتيان بالمقابل، قوله تعالى: " وبشروه بغلام عليم. فأَقبلت عليه امرأَته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم ".
ووصف الأَفعال كثير في كلام البلغاءِ وأَشعار المغلقين، مثل قول النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إِسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
ومثل قول أَبي تمام:
أَعيدي النوح معولة أَعيدي ... وزيدي من عويلك ثم زيدي
وقومي حاسرا في حاسرات ... خوامش للنحور وللخدود
ومثل ما جمع الأُمور الثلاثة قول القائل:
إِذا ما هبطن الأَرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
قال: فأَما التغييرات المنجحة التي تفضل غيرها في ذلك فهو التغيير الذي يكون من الأَشياءِ المتناسبة، يعني إِذا كان هاهنا شيء نسبته إِلى شيء نسبة ثالثٍ إِلى رابع، فأُخذ الأَول بدل الثالث وسمي باسمه، وذلك مثل ما قال بعض القدماءِ يذكر الشبان الذين أُصيبوا في الحرب إِنهم فقدوا من المدينة كما لو أَنَّ أَحداً أَخرج الربيع من دور السنة.
ومثل قول أَبي الطيب:
مغاني الشعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
وذكر في هذا أَمثلة كثيرة من أَقاويل مشهورة كانت عندهم يعسر تفهم القول بها بحسب لساننا وعادتنا.
والاستعارة التي تكون من هذا النوع كثيرة موجودة في أَشعار العرب وخطبها. والأَقاويل التي يخصها أَهل لساننا من الناظرين في الشعر والبلاغة بالاستعارة هي داخلة في هذا الجنس، ولذلك يقولون: إِن المجاز استعارة وتشبيه.
قال: وينبغي للخطيب أَن يحتال بكل جهة لتكثير صفات الشيء الصغير إِذا تكلم فيه، فإِن كثرة الأَوصاف هي من التكثير والتعظيم، وذلك مثل قول القائل يُحسن السلم: إِن السلم من أَعلام الغلبة والنجح، وهو أَفضل من الحرب، لأَن الغلبة والنجح فيه أَوحى وأَسرع ودون تكلف ومشقة. وأَما الحرب فإِنما تكون الغلبة فيها والنجح بعد استكمالها وتكلف المشقة وذهاب النفوس والأَموال في ذلك. فكلاهما من أَعلام الغلبة والنجح، لكن أَحدهما أَيسر وأَوحى.
قال: وينبغي إِذا أَردنا أَن نجعل الشيءَ بالقول نصب العين أَن نبين ماذا يفعل وما الذي يلزم تلك الأَفعال، أَعني أَن نذكر الأَشياءَ التي هي أَفعال ودلائل.
قال: والتغيير نفسه قد يفعل الأَمرين جميعا، أَعني أَنه يجعل الشيءَ نصب العين وينبئ عن ماذا يكون منه، لكن لا يتضمن ذكر الأَفعال. ولذلك ينبغي أَن يستعمل التغيير في الأَفعال أَنفسها بأَن تخيل أَفعال ذوات الهمة والكرم، وبالجملة: أَفعالا منسوبة إِلى الحرية وكرم النفس، كما يقال زهري الأَفعال، وحاتمي الكرم، وذلك بحسب ما يحتاج إِليه في موضع موضع.
قال: ومن الجيد في التغيير الذي يكون في الأَفعال، أَعني إِذا وصفت مغيرة، أَن تجعل الأَشياء التي توصف أَفعالها، إِذا كانت أَفعالها غير متنفسة، متنفسة حتى يخيل في أَفعالها أَنها أَفعال المتنفسة. وذلك مثل ما كان يفعله أُوميروش. وذكر في ذلك مثالات من قوله. وهذا مِثل قول المعري:
تَوَهَّمَ كلَّ سابِغَة غديراً ... فَرَنَّقَ يشرب الحِلَقَ الدُّخالا
ومثل قول أَبي الطيب:
إِذا ما ضربتَ به هامة ... براها وغنَّاك في الكاهل
وهذا كثير في أَشعار العرب، أَعني جعلها الاختيار والإِرادة لغير ذوات النفوس.