قال: ومن الكلام الموصل: المتدافع وهو الذي لا تكون أَجزاؤه ذوات الفصائل أَو العطوف متساوية، بل يكون بعضها أَطول من بعض، ولكن يكون الطوال منها والقصار منتظمة، وذلك مثل ما يحمده الكتاب عندنا من أَن تكون الفقرة الثانية أَطول من الأُولى.
قال: ومنه أَيضا الكلام المضارع، وهو أَن تكون أَجزاؤه الموصولة متشابهة، وذلك إِما في أَول الفصول أَو في أَواخرها. والتشابه في أَوائل الفصول يكون أَبدا بالأَسماء، مثل قول القائل: السعادة حركته، والسعادة أَنجدته، ومثل قولهم، طويل العماد، طويل النجاد. وأَما التضارع بالنهاية فيكون بالمقاطع، أَعني بالحروف التي تسمى الفِقر، ويكون بتصاريف الاسم، ويكون باللفظ الواحد بعينه. أَما المتشابهة النهاية والتصريف يحتمل أَن يريد بها المتفقة أَشكال أَلفاظها، ويحتمل أَن يريد التي أَلفاظها مشتقة بعضها من بعض، مثل قول القائل: إِنه يمكر وأَمكر، ويكيد وأَكيد. وكلاهما يحدث في الكلام إِلذاذا. وأَما الذي يكون باللفظ الواحد بعينه فكثير أَيضا، مثل قول القائل: إِن رأيه مصيب، وإِن فعله مصيب.
قال: وإِذ قد حددت هذه الأَشياء، يعني الأَحوال التي توجد للأَلفاظ من جهة ما هي مركبة، فقد ينبغي أَن نقول من أَين تؤخذ الأَقاويل الحسان المنجحة الفعل. فإِن شأن هذه الصناعة إِنما هو أَن يفعل الإِقناع حسنا جيدا، فنقول: إِن مبدأَ الأَمر في ذلك هو أَن تكون الأَلفاظ المستعملة فيها جيدة الإِفهام لذيذة عند كل أَحد. والأَلفاظ، فهي دالة على شيء. فما كان منها يفعل مع الدلالة جودة الإِفهام والإِلذاذ، فهي التي تفعل جودة الإِقناع. وليس يصلح لهذا الفعل الأَسماء التي من اللغات الغريبة، لأَنها مجهولة غير جيدة الإِفهام. ولا يصلح أَيضا لذلك الأَسماء المبتذلة المشهورة، لأَنها وإِن كانت جيدة الإِفهام، فإِنها غير لذيذة. فإِذن ليس كل إِبدال وتغيير يصلح لهذه الصناعة، وإِنما الذي يصلح لها من التغييرات ما وجدت فيه هذه الزيادة، أَعني جودة الإِفهام مع الإِلذاذ. وهذا التغيير هو مثل قول القائل: إِن الشيخوخة هي فاعلة الخيرات، بدلا من قوله: إِن الشيخ هو فاعل الخيرات. فهذا تغيير، ولكنه مفهم، لأَنه من الجنس. والشيخ إِنما هو فاعل للخيرات من قبل الشيخوخة.
قال: وفعل اللفظ في هذا شبيه بفعل المثال والضمير، أَعني أَنه قد يوجد فيهما ما يفعل جودة التفهيم والالتذاذ، وقد يوجد فيهما ما يفعل التفهيم دون الالتذاذ. ولذلك أَيضا كانت التغييرات المركبة الاستعارة والبعيدتها أَقل إِلذاذ من غيرها، لأَنها تكون طويلة كاذبة، أَعني قليلة الإِفهام. وذلك أَن ما يعرض من ذلك شبيه بما يعرف في المثال المركب البعيد، فكما أَن النفس لا تتشوق إِلى التمثيل بمثل هذا ولا تلتذ، كذلك يعرض لها أَلا تلتذ بالاستعارات البعيدة المركبة. وإِذا كان هذا هكذا، فمن الواجب أَن تكون الأَلفاظ الحسان المستعملة في هذه الصناعة والاحتجاجات الحسان ما اجتمع فيه الأَمران جميعا، أَعني الالتذاذ وجودة الفهم.
قال: ولهذا لا ينجح في هذه الصناعة فعل الذين يفعلون الضمائر فيها والمثالات من الأَشياءِ البينة جدا المكشوفة لكل أَحد التي لا يحتاج أَحد أَن يفحص عنها. وكانت أَمثال هذه معدودة في الاستدلالات السخيفة. وكذلك ليس ينبغي أَن يكون المعنى أَيضا مما إِذا قيل لم يفهم، أَو عسر تفهمه، كما أَنه ليس ينبغي أَن يكون إِذا قيل معروفا من ساعته، ولا أَن يكون مما هو واجب أَن يكون، لكن يكون مما يضلل الفكر قليلا، أَعني أَنه يحصل فهمه بعد تأَمل يسير. وذلك أَن الأَمر البين من ساعته قد يكون منه قياس، لكن يكون غير لذيذ؛ كما يكون من الأَلفاظ الحقيقية التي ليست مستعارة إِفهام، لكن غير لذيذ. فقد تبين من هذا أَن الضمائر والمثالات المنجحة في هذه الصناعة إِنما هي التي تؤلف من أَمثال هذه المعاني، وأَن الأَلفاظ المنجحة هي المغيرة، أَعني المستعارة، تغييرا يفعل الالتذاذ. والتخييل مثل التغيير الذي يكون من الضد، أَعني أَن نسمي الشيءَ باسم ضده على جهة التحسين له، مثل تسمية الحرب سلما. وكما يجب أَن يتجنب التغيير الذي يكون من الأَسماء الغريبة، كذلك ينبغي أَن يجتنب التغيير الذي يكون من الأَسماءِ المشتركة. فإِن الاسم المشترك يعسر فهمه، مع أَنه ليس فيه شيء من التخييل.