قال: وينبغي أَن تكون الأَقاويل الخطبية مفصلة إِما بأَن تكون أَواخرها على صيغ واحدة بأَعيانها، وإِما بأَن تكون - مع كونها على صيغ واحدة بأَعيانها - أَواخرها حروف واحدة بأَعيانها، وهو الذي يعرف عندنا بالكلام المفقر، وإِما بلفظ مكرر بعينه، وتكون مع هذا موصلة بحروف الرباطات. فمثال المفصل بالصيغ المتفقة قول تعالى: " فاصبروا صبرا جميلا. إِنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ". وذلك أَن جميلا وبعيدا وقريبا هي كلها على صيغ واحدة وشكل واحد. وهذا كثير في الكتاب العزيز. وأَكثر الكلام البليغ لا يخلو من هذين النوعين من التفصيل، أَعني المفقر وغير المفقر.
قال: والكلام المفصل هو الذي لا تنقضي فصوله قبل انقضاء المعنى الذي يتكلم فيه. فإِنه إِذا انقضت الفصول قبل انقضاء المعنى كان غير لذيذ في السمع، من أَجل أَنه لم يتناه بعد بتناهي الفصول. والسامع إِنما يتشوق النهاية. ويعرض للمتكلم بهذا الكلام أَنه يقف عند انقضائها قبل انقضاء المعنى، فيقف في غير موضع وقف. أَعني إِذا كان المعنى أَطول من الفصول. وإِذا جعل المتكلم نهاية فصول القول بحسب نهايات المعنى لم يعرض له هذا.
قال: والكُرُور والمعاطف في الأَقاويل الخطبية هو أَن يكون أَول القول وآخره بلفظ واحد أَو قريب من الواحد، وهذا مثل قولهم: القتل أَنفى للقتل. ومثل قوله تعالى " الحاقة ما الحاقة وما أَدراك ما الحاقة ". والتكرير في الكلام الخطبي إِنما يكون في هذه المعاطف. والكلام الذي بهذه الصفة إِذا كان ذا قدر معتدل كان لذيذا سهل الفهم. أَما لذيذ، فلأَنه على خلاف الذي لا يتناهى؛ وأَما سهل التعلم، فلأَنه يسهل حفظه لتكرر الأَلفاظ فيه، ولأَن له عددا ووزنا.
قال: والكلام الموزون يحفظه كل أَحد، ولذلك صار الكلام المعطف أَسهل للحفظ من جميع الكلام.
قال: وينبغي أَن تكون العطوف متناهية بانتهاءِ المعاني كالحال في الفواصل.
قال: وينبغي أَن تكون الوُصل في الكلام المفصل غير متراخية جدا ولا متلاحقة، بل تكون بحيث يسهل التنفس في فصوله وأَقسامه، كالحال في الكلام المعطف، أَعني أَنه لا يجب أَن يكون الجزءُ الأَخير منه منفرجا ولا متراخيا عن الجزءِ الأَول. ولذلك كان الكلام الموصل هو قول تام منفصل يحسن التنفس، أَي الوقف، في فصوله وأَقسامه.
قال: وينبغي أَن تكون فصول الكلام وأَعطافه لا قصارا ولا طوالا. أَما القصار فإِن قصرها يكون سببا للسهو عنها والغفلة؛ وأَما الطوال، فلأَن الطول يكون سببا لترك الإِصغاء إِليهم ومفارقة السامعين لهم بترك الإِقبال عليهم كالذين يتعدون الغاية ويمشون في طريق طويل، فإِنه يعرض للذين يصحبونهم أَن يفارقوهم. وكذلك يعرض أَيضا في المعاطف، إِذا كانت طوالا، أَن تكون مملة. وكذلك إِذا كان أَيضا ما بين المعاطف طويلا، مثل قول القائل: ما فعل فلان شرا، ولكنْ فلان الذي فعل كيت وكيت وكيت هو الذي فعل الشر، فيباعد ما بين المعطفين. وأَما القول الذي فصوله قصار جدا فلا يفعل فعل الكلام المعطف ولا فعل الكلام المفصل لأَن السامعين لها يسنخفون بها ويستهزئون بها، فتنبو عنها أسماعهم.
قال: والكلام الموصل بحروف الرباطات منه ما هو مقسم من غير أَن يكون بين أَقسامه تضاد، مثل قول القائل: أَما فلان فقال كذا وكذا، وأَما فلان فعمل كذا وكذا. ومنه ما هو مقسوم إِلى أَشياء متضادة أَو موجودة لأُمور متضادة. مثال ذلك في الأُمور المتضادة أَنفسها، قول القائل: أَما العقلاء فأَنجحوا، وأَما الحمقى فأَخفقوا. ومثال ذلك في لواحق الأُمور المتضادة قول القائل: أَما فلان فمشتاق إِلى الكسب، وأَما فلان فمشتاق إِلى اللهو، لأَن الاشتياق إِلى الكسب هو لازم للفقر، والاشتياق إِلى اللهو لازم للثروة.
قال: والكلام الذي بهذه الصفة لذيذ، وذلك أَن الأَشياءَ المتضادة تكون أَعرف إِذا وضع بعضها حيال بعض، وذلك أَنها تعلم بوجهين بذاتها وبزيادة، أَعني بمقايستها إِلى الضد. وفي ذلك أَيضا بجهة ما استدلال على الشيء. فهي بهذه الجهة تشبه الاستدلال على الدعوى.