للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال: فإِذا عددت بالجملة أَجزاء القول الخطبي كانت خمسة: اقتصاص بعد اقتصاص، وهي الخاتمة التي تُذكّر بالتصديق وبالغرض؛ واقتصاص قبل اقتصاص، وهي رسم الغرض قبل الغرض؛ ورسم التصديق قبل التصديق، وهو القول المثبت أَو النافي.

قال: ولكن ينبغي أَن توضع لهذه المعاني الخمسة - إِذ كانت مختلفة - أَسماء، كما يفعله أَهل الصنائع، يريد أَن يسمي الجزء الأَول صدراً، والثاني الغرض، والثالث الاقتصاص، والرابع التصديق، والخامس الخاتمة.

قال: والصدر هو مبدأُ الكلام، وهو الذي يستفتح به الكلام، ونسبته إِلى الكلام نسبة فواتح الأَشياء إِلى الأَشياءِ، وذلك مثل فاتحة الزمر إِلى الزمر، وما أَشبه ذلك. فإِن الفواتح مبادئ للأَشياءِ التي تأتي بعد، وتدريجات لما يجيء منها واحدا بعد واحد.

قال: وفاتحة الزمر شبيهة بفاتحة الكلام المنافري. فإِنه كما أَن الذين يزمرون بالأَنابيب، إِذا أَرادوا أَن يجيدوا الزمر، إِنما يترنمون به أَولاً، ثم أَنه بأَخرة يضمون ويجمعون الزمر، كما ينبغي أَن يكون الذي يتكلم بالكلام التثبيتي، أَعني المنافري، أَعني أَنه ينبغي للذي يريد أَن يجيد قوله أَن يبين فيماذا يتكلم ثم يتدرج حينئذ إِلى سائر الكلام ويضم ويؤلف. وهكذا نجد الخطباء يفعلون أَجمعين.

قال: والبرهان على وجود هذا المعنى للصدر، أَعني أَنه يضبط الغرض الذي فيه القول ويحدده، صدر الكلام الذي لفلان حيث ابتدأَ فقال حين أَراد أَن يشرع في ذكر امرأَة مشهورة عندهم ورجل مشهور: إِنه ليس هاهنا شيء يختص بذكر فلانة دون فلان، بل هما فيه معا. وذلك أَنه إِذا فعل الخطيب هذا، لم يمكنه أَن يروغ أَو يحيد عن الغرض الذي ذكره، فيأتي كلامه كله مستويا.

قال: وقد تُعمل صدور الكلام المشوري من المدح أَو الذم، كقول فلان في أَول مقالته التي تدعى كذا حيث يريد أَن يمدح الذي يؤلفون من العيد: إِنه قد يجب أَن يكثر التعجب من اليونانيين الحكماءِ.

قال: وكذلك الصدور التي في المشوريات هي أَيضا جزءٌ من المشوريات، مثل أَنه إِذا أَراد أَن يشير بإِكرام قوم يبدأُ فيقول: إِنه ينبغي أَن يكرم الخيار. وإِذا أَراد أَن يشير بذم قوم، افتتح الكلام: إِنه ليس يجب أَن يمدح الذين لم ينجحوا قط ولم يصنعوا شيئا يظهر لهم به خير أَو فضيلة. وكذلك الخصوميات تكون الصدور فيها من نوع الكلام الذي يقصد به السامع، لا الخصم.

قال: وإِنما يضطر إِلى الصدور إِذا كان الكلام كثيرا، إِما من أَجل أَن الأَمر المتكلم فيه عجيب، أَو من أَجل أَنه صعب، أَو من أَجل أَنه شغب يكون فيه كالكلام الذي يكون في الامتنان بالعفو، وذلك مثل قول القائل في ابتداء خطبة العفو: الآن رمى ما كان فكل شيء هدر.

قال: وبالجملة: فصدور الكلام: أَما التثبيتي فتكون من المدح والذم، وأَما المشوري فمن الدعاء ولا دعاء، وأَما الخصومي فمن الشكاية التي يقصد بها السامع.

قال: وينبغي أَن تكون حواشي الكلام إِما غرائب وإِما أَهليات، يريد - فيما أَحسب - أَن يكون الذي يستفتح به الكلام إِما مثل غريب منبئ عن الشيء المتكلم فيه، وإِما مثل مشهور، مثل أَن يستفتح الخطب التي يشار فيها بالأَخذ بالحزم وحسن النظر أَو في التي يقصد بها الشكاية: قد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين.

قال: والصدور ينبغي أَيضا أَن تستعمل في الكلام الخصومي، فإِنه يوجد لها فيه الفعل الذي تفعله صدور الكتب والأَشعار. فإِن الصدر بالجملة إِنباء عن الكلام المقصود، يراد به أَن يتقدم السامعون فيعلموا فيماذا يتكلم المتكلم، وأَلا يكون للفكر تعلق في حين الكلام في معرفة الشيء الذي يتكلم، مثل ما يعرض له في الكلام المهمل الغير المحدود، فيضلله ويغلطه. ولذلك ليس الكلام الذي بهذه الصفة، أَعني الذي ليس له مبدأ يدل عليه، مثل الكلام الذي يكون متبعا لمبدئه ومنبئا ومنبها عليه، مثل قول فلان لما أَراد أَن يذكر فلان بأَفعاله ابتدأَ فقال: انبئيني عن الرجل الكثير المكائد الذي حسم أُمور كثيرة من بعد ما خربت المدينة العامرة. وليس يفعل هذا الخطباء فقط، بل والشعراء الذين يعملون المديح وغيرهم من أَصناف الشعراءِ.

<<  <   >  >>