للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال: والعمل الخاص بالصدور الذي يوجد لها اضطراراً وهو غايتها وتمامها إِنما هو أَن ينبئ عن الشيء الذي يتكلم فيه ما هو حتى يكون ذلك الشيء معلوما منه وفيه. وإِذا كان الأَمر المتكلم فيه يسيرا، فليس يحتاج إِلى التصدير.

قال: وقد يتقدم الكلامَ في الشيء وجوهٌ من الحيل التي وصفناها فيما تقدم وهي خاصة ببعض الكلام، لا عامة. وتلك الوجوه من الحيل منها ما هي مأخوذة من قبل المتكلم نفسه، ومن السامع، ومن الأَمر الذي فيه يتكلم، ومن الخصم. أَما الذي يكون من قبل المتكلم ومن قبل خصمه، أَما في الشكاية فمدح نفسه وتعظيمها وتنقص خصمه. وليس المتكلم والمجيب في تقديم الكلام في ذلك بحال واحدة، لأَن المجيب ينبغي له أَن يبدأ بالجواب في إِنكار الشكاية، وأَما الشاكي فينبغي أَن يبدأ بتقديم الكلام على الشكاية. وأَما المجيب فقد كفاه الشاكي أَن ينبئ أَول كلامه عن الغرض، فلذلك ليس يحتاج إِلى تقديم الكلام. وبالجملة فالذي يجيب على المجيب هو أَن يبادر إِلى دفع الشكاية عن نفسه ويقطع عن ذلك جميع العوائق ولا يتوانى في ذلك ويؤخر تلك الأَشياء التي هي حيل واستدراجات للحكام إِلى آخر كلامه. وأَما الشاكي فينبغي أَن تكون شكايته بتقديم الكلام، أَعني التصدير، ليكون السامعون أَذكر للأَمر. وأَما الحيل التي يبدأ بها مما هي نحو السامع فهي إِيجاب الشفقة عليه والمحبة له والغضب على خصمه، وذلك بأَن يثبت عنده أَنه ذو قرابة منه أَو بينه وبينه علاقة نسب، أَو بضد ذلك. فإِنه ليس في كل موضع ينفع تثبيت القراة والمشاركة في النسب، بل ربما أَدى ذلك إِلى الضحك والسخرية ممن يدعي ذلك، إِذا كان ما يدعيه غير معروف. ومما يستدرج به السامعون أَيضا بسطهم وإِيناسهم، وذلك أَن البسط والإِيناس مما ينتفع به عند كل شريف من الناس ونفيس. ويجب للذي يريد أَن يثبت أَنه خير وفاضل أَن يعتمد ذلك عند الذي بينه وبينهم قرابة أَو صلة، وكذلك عند القوم الذين يكون مألوفا عندهم أَو عجيب المنظر. فإِن لم يكن عندهم واحداً من هؤلاءِ، فقد ينبغي أَلا يشتغل بالأمور التي من خارج، ويثبت - إِن كان مجيبا - أَن الأَمر الذي ادعى به عليه يسير أَو غير مؤذٍ؛ وإِن كان شاكيا أَن يبين أَنه مؤذِ ومكروه عظيم. وكل هذه الأَشياء هي خارجة عن الأَمر الذي يتكلم فيه، وهي كلها موجهة نحو السامعين، أَعني الحيل الخارجة والصدور. فلذلك إِذا كان واجبا على المتكلم أَن يصدر الكلام، فينبغي أَن يكون الصدر بقدر الكلام، فإِن الصدر إِنما هو ليكون للكلام رأس كما للجسد.

قال: وأَما تثبيت الخطباء القرابة فإِنه عام لجميع أَجزاءِ الكلام الخطبي. وذلك يكون في كل حال إِذا كان السامعون عالمين بالقرابة غير شاكين فيها.

قال: ومما يستحق فاعله الهوان أَن يكون التصدير بالأُمور الصعبة على النفوس الكريهة المسموع، ولا سيما إِذا تأَمل السامعون أَو تفقدوا ما يكون من ذلك، مثل قول القائل: إِنه لا يكون هذا حتى أُقتل، أَو أَنه ليس هاهنا شيء هو لي أَكثر مما لكم، أَو أخبركم خبرا لم تسمعوا بمثله قط في الغرابة أَو الشدة. ومن هذا النوع الذي ذكر تستقبح بداءآت كثير من الأَشعار مثل استقباح عبد الملك بن مروان لاستفتاح جرير:

أَتصحو بل فؤادك غير صاح.

ومثل ما استقبح استفتاح أَبي الطيب:

أَوه بديل من قولتي واها.

وقوله:

كفى بك داء أَن ترى الموت شافيا.

وهذا كثير في أَشعار العرب وخطبها.

قال: أَما ما كان من هذه الأَشياء نحو السامع فبيّن، وأَما ما كان منها نحو الأَمر نفسه فبين واضح من هذه الأَشياءِ. والذين يكثرون الصدور والحيل التي نحو السامع إِنما يفعلون ذلك حيث يتشعب عليهم الكلام إِما لجهلهم، وإِما لعدمهم الفضيلة، أَو للأَمرين جميعا. ولذلك الشرار أَو الذين يظن بهم الشر قد يفعلون ذلك لأَن تطريقهم وتدريجهم للأُمور التي يتكلمون فيها في كل حال هو أَمثل. ولذلك ما صار العبيد ليس يتكلمون في الشيء الذي يُسئلون عنه، وإِنما يتكلمون في الأَشياء الخارجة عن الشيء الذي يُسئلون عنه.

قال: فأَما من أَين ينبغي أَن يؤنس السامعون أَو يحتال لأُنسهم فقد قيل في ذلك وفي غيرها من الانفعالات النافعة عند السامعين وكيف تكون إِجادة هذا الفعل في المقالة الثانية من هذا الكتاب.

<<  <   >  >>