قال: والأَقوال المديحية يحتاج فيها أَن يجتهد في إِيهام السامع ذلك الأَمر الذي يقصد تثبيته ويوقع عليه ظنه. وينبغي مع هذا أَن يمدح المرء إِما بحضرته أَي بمدينته، وإِما بحضرة جنسه، أَو بحضرة من يتصل به، فإِنه أَسرع لقبول مدحه. فإِنه كما قال سقراط: ليس يعسر أَن يُمدح أَهل أَثينا عند أَهل أَثينا، وإِنما يعسر أَن يمدح عند أَهل لوقيا، يعني أَعداءهم.
قال: وما كان من الكلام المشوري فهو يشبه الكلام الخصومي، فإِنه ليس يحتاج فيه كثيرا إِلى تقديم كلام وتصدير، من أَجل أَن السامعين يعرفون الشيء المتكلم فيه، إِلا أَن يكون محتاجا إِلى تقديم الكلام من أَجل نفسه، أَو من أَجل الذين ينظرون في الكلام، إِذا لم يعلموا الأَمر الذي يتكلم فيه، إِلا أَن يريد أَن يوهمهم أَن الشيءَ النازل به ليس خاصا به ولا صغيرا بل هو عام وعظيم، أَو أَنه بضد هذا، أَعني خسيسا وصغيرا. والذي يحتاج إِليه ضرورة في الخصومة هو القول في تثبيت الشكاية والاحتجاج لها والتكبير والتصغير لها.
قال: وينبغي أَن ينظر في الأَشياء التي تتنزل من الأَقاويل الخطبية منزلة التزويق والتزيين، وذلك كالذي يكون في الأَشياء المموهة التي يظن بها أَنها بحالة ما، وليس هي كذلك بالحقيقة. وهذا قد يكون في المدح، ويكون أَيضا في الاعتذار عن الشكاية. والشكاية بالجملة إِنما يقع الإِقناع بها بأَن يثبت المرءُ الشاكي على أُولئك الذين يشكو بهم سوء الهمة أَو سوء السيرة. والمشتكى منه إِنما يجيب بأَن يثبت أَنه لا فرق بين أَن يدعي هذه الشكاية أَو لا يدعيها. وهذا هو أَحد المواضع التي يجيب منها المشتكي منه، وذلك إِذا لم يعترف أَن الأَمر كان. فإِن الخصومات أَجمع إِنما تكون المنازعة فيها من المدعى عليه إِما بأَن الأَمر لم يكن، وإِما بأَنه كان وليس ضرراً ولا جوراً، وإِما أَنه ليس على هذه الصفة التي ذكر الشاكي كان الفعل، وإِما أَنه لم يكن بهذا القدر الذي ذكره أَو أَنه ليس عظيما أَو أَنه ليس قبيحا أَو ليس له خطر. ففي هذه ونحوها تكون المشاكسة والمنازعة بين المتشاكسين والمتنازعين.
ومن هذه المواضع يقع الاعتذار أَما أَولاً فأَن يعترف أَنه أَضر ولكنه لم يقصد ذلك ولا تعمده وإِنما قصد الجميل أَو النافع لا غير ذلك.
وموضع آخر: أَن يعترف أَنه أَضر ولكن بالإِكراه، لا بالطوع ولا بالاختيار والإِرادة. وموضع آخر: وهو أَن يوجد الشاكي قد افترى الشكاية قَبْلُ على إِنسان ليس متهما، أَو كان معروفا بالشكاية والافتراءِ. وهذا الموضع هو بالجملة أَن يبين المجيب أَن الشاكي به غير موثوق وأَن كلامه غير مصدق عليه. وموضع آخر وهو مأخوذ من دعوى مخالفة الباطن للظاهر لمصلحة يدعيها في الفعل الظاهر: وهو أَن يدعي أَن ذلك الفعل منه لم يطابق ظاهره فيه باطنه، وأَنه كان فيه كالمنافق لمصلحة يدعى في ذلك، مثل أَن يحنث في يمين ويدعي أَن ظاهره كان في ذلك غير موافق لباطنه، وإِنه كان في ذلك كالمنافق لمصلحة ما قصدها.
وموضع خامس: وهو أَن يدعى لذلك الفعل مقصدا أَو حكما غير الذي زعمه الشاكي. وهذا الموضع والذي قبله يعمهما أَن يدعي أَن الفعل الواقع قصد به غير الذي زعم الشاكي، وذلك بأَن يصف كيف كان وقوع ذلك الفعل. وموضع آخر للذي يخجل من شيء يذكره: أَن يمدح قليلا ويذم كثيرا. فإِن الشكاية ليس في وقوعها معرة من المذمومين، أَو يذكر منه فضائل كثيرة ثم يذمه من الجهة التي افترى بها.
وهكذا يفعل أَهل الحذق والنفاذ والدَّهىْ، فإِنهم يقصدون أَن يضروا بالخيار من الناس بأَن يصفوهم بالأَمرين جميعا، أَعني بالخير والشر، من قبل أَن الشر ممكن وقوعه من أَهل الخير. ولو وصفوهم بالشر فقط، لم يكن ذلك مما يظن بهم.
قال: والموضع المأخوذ من توجيه جهة الفعل هو عام للذي يخجل وللذي يتنصل معا، لأَن الشيءَ الواحد يمكن أَن يفعل من أَجل علل شتى. فالذي يخجل يوجهه إِلى الشر، والذي يتنصل منه ويعتذر يوجهه إِلى الخير.
قال: وأَما الاقتصاص فقد يكون في الجزءِ المنافري. وينبغي - إِذا كان الاقتصاص إِنما هو تصديق ما موجز يتعجل وقوعه قبل التصديق التام - أَلا يؤتى به على النسق والتركيب الذي يستعمل في الأَقاويل التصديقية، بل قد يؤتى به مفردا وعلى غير نسق.