قال: وينبغي أَن يبين وجود الأَفعال التي منها تعمل الدلائل على الأَشياءِ المقصودة التثبيت. وهذه الأَفعال منها ما يكون تثبيتها بالأُمور الخارجة ومنها ما يكون بطريق صناعي، وهي المثبتة بالقول. ولأَن التثبيتات تختلف: فمنها مشتبك متشعب، كتثبيتك في الفضائل الكثيرة أَنها موجودة للمدوح، أَو للشيءِ الذي هو موجود له منها، أَو اَنه موجود له عدد ما منها، أَو أَنه موجود له كل شيء منها. فقد ينبغي أَلا يكون الاقتصاص الواقع في هذه الأَشياءِ على نسق، لأَن التثبيت الذي يكون على نسق مما يعسر حفظه؛ بل ينبغي أَن يكون الاقتصاص في هذه على غير نسق ومجملا.
قال: وأَما إِذا كان الموصوف فإِنما ينفرد بفضيلة واحدة مثل أَن يكون شجاعا أَو حكيما أَو ناسكا، فإِن التثبيت في مثل هذا يكون بسيطا. فأَما الأَول فمشتبك وغير بسيط. وكأَنه يريد أَن الاقتصاص في المدح البسيط ليس يخالف التثبيت في عدم التركيب والنظام، وإِنما يخالفه في ذلك في التثبيت المركب، إِذ كان الاقتصاص من شأنه أَن يؤتى به بسيطا لا مركبا، أَعني أَنه استدلال بسيط موجز لا مركب ولا منتظم، سواء كان التثبيت مما يحتاج فيه إِلى التركيب والنظام أَو لا يحتاج.
قال: وليس ينبغي أَن يستدل على الأُمور المعروفة. ولذلك كثير من الناس ليس يحتاج في مدحهم إِلى اقتصاص، وهم الناس الذين فضلهم بالجملة معروف، وإِنما المجهول منها عند السامع تفصيلها. لأَن الاقتصاص إِنما يثبت فيها شيئا هو معلوم. فأَمثال هؤلاءِ لا ينبغي أَن يشتغل فيهم بعمل الاقتصاص المجمل، قبل التثبيت المفصل، مثل أَنه إِذا أَراد إِنسان أَن يمدح أَبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فليس يحتاج في مدحهم أَن يبين أَنهم أَفاضل قبل أَن يشرع في تثبيت فضائلهم على التفصيل. اللهم إِلا أَن يكون الحاكم والسامع جاهلا بالممدوح، مثل الغرباء؛ فإِنه قد يحتاج مع أَمثال هؤلاءِ إِلى استعمال الاقتصاص.
قال: ولأَن المدح إِنما هو كلام ينبئ عن عظم الفضيلة، فقد ينبغي أَن يستعمل المدح بالأُمور الخارجة التي ليست اختيارية على جهة التأكيد للتصديق الواقع من قبل الأَفعال. فإِن المدح إِنما يكون بالأَفعال. واستعمال الأَشياء التي من خارج على جهة التأكيد للمدح المتقدم بالأَفعال هو مثل قول القائل، بعد تثبيت الأَفعال الفاضلة: وبالواجب كان هذا، فإِنه يحق أَن يكون من الخيار خيارٌ، وإِن من نشأَ هذا المنشأ فحقيق أَن يكون بهذه الحال. والمدح، كما قلنا، إِنما يكون بالأَفعال. والمفعولات هي دلائل الأَفعال. وقد يمدح المرءُ وإِن لم يذكر له فعل وذلك إِذا تهيأَ وقوع التصديق بأَنه سعيدٌ أَو مغبوط أَو أَنه فاضل. وذلك أَن المدح بالأَفعال إِنما هو ليستدل به على الفضيلة. والمدح بالفضيلة ليستدل بها على السعادة والغبطة. فإِن نسبة الأَفعال إِلى الفضيلة كنسبة الفضيلة إِلى السعادة.
قال: وقد تكون مواضع ما عامة للمديح وللمشورة جميعا، وإِنما تنقلب لأَحد النوعين بتغيير يسير يستعمل فيها، وذلك أَن التي ينبغي أَن تفعل هي التي يمدح بها إِذا فعلت. فمن عرف التي ينبغي أَن تفعل فقد عرف التي ينبغي أَن يمدح بها. وإِذا كان ذلك كذلك، كانت له قدرة على الفعلين جميعا، أَعني المدح والإِشارة. وذلك أَن الشيءَ الذي يأتي به على طريق الإِشارة والحث إِذا غيره تغييرا يسيرا وبدله صار مدحا. مثال ذلك أَن يقول قائل: إِنه لا ينبغي أَن يُتوهم أَن الأُمور العظام الشريفة هي الأُمور التي ينالها المرءُ بسعادة الجَد وجودة الاتفاق، بل الأُمور العظيمة هي التي تنال بالسعي وحسن الرأي. فإِنه إِذا قيل هكذا، كان كلاما مشوريا، فإِذا غير هذا وقيل: إِن فلانا إِنما نال الأُمور العظام بسعيه وجِده لا بجَده، كان مدحا. فالشيء الذي به يشار في هذه الأَشياء، به يكون المدح. وقد يكون الكلام مركبا من مدح ومشورة، وذلك إِذا انتقل الخطيب من أَحدهما إِلى الآخر، مثل أَن يقول: أَنت إِنما نلت العظائم بسعيك وجِدك، فلا تركن إِلى ما نلت منها باتفاق وجودة بخت.