قال: وينبغي أَن يكون الاقتصاص خفيفا غير مطول، بل يكون بحيث يؤذن دفعة بالأَمر الذي قصد أَن يؤذن به ويدل عليه، وذلك إِما بإِغلاط من القول وإِما بلين وإِما بوسط بين ذلك، بحسب ما يليق بمقام مقام. وكذلك ينبغي أَلا يجعل صدر الكلام طويلا، ولا يذكر فيه التصديقات فإِنه إِن فعل ذلك لم يكن الكلام حسنا وكذلك يجب أَلا يكون أَيضا وجيزا قصيرا، ولكن يكون قصدا معتدلا. وذلك بأَن يذكر فيه الأَمر الذي جعل إِنباء عنه من ضرر أَو ظلم أَو غير ذلك مما يكون فيه القول، ثم يتوخى بعد ذلك أَن يكون الكلام على مثل تلك الأُمور التي فيها الكلام وبمقدارها لا مخالفا لها ولا أَعظم منها أَو أَصغر.
قال: ومن النافع أَن يخلط المتكلم بالاقتصاص بعض الأَقاويل التي تدل على فضيلته ليكون كلامهُ أَقنع وأَن يستعمل من ذلك ما كان لذيذا وقوعه عند الحكام.
قال: فأَما المجيب فينبغي أَن يقلل الاقتصاص إِن كانت الخصومة في أَنه لم يكن الأَمر الذي أَدعى المتكلم وقوعه، أَو في أَنه لم يكن ضارا، أَو في أَنه لم يكن ظلما، أَو في أَنه لم يكن على الصفة التي ذكر. وذلك أَن المجيب لا ينبغي أَن ينازع خصمه فيما أَقر به، إِن لم تكن له فيه منفعة. وذلك مثل أَن يقر أَنه فعل، ولكن لم يكن ذلك الفعل ظلما. وإِنما ينبغي للمجيب أَن لا ينكر الأَفعال التي إِذا لم يفعل، لم يجب العقاب أَو الغرم، أَو وجب الصفح.
قال: وينبغي أَن يكون الاقتصاص أَهليا أَي مألوفا معروفا غير منكر، وذلك يكون بأَن يخلط به المتكلم الأَقاويل التي تحرك المرء إِلى الخلق الفاضل وتحرض على فعل الخير، وهي الأَقاويل الخلقية. وإِنما تستعمل الأَقاويل الخلقية في الأَشياءِ الإِرادية العملية، لا في الأَشياءِ النظرية. فإِن الأَخلاق هي مبادئ الأعمال التي هي نحو غاية ما، لا مبادئ الاعتقادات.
قال: ولذلك لم تستعمل الأَقاويل الخلقية في الأَشياءِ التعاليمية إِلا ما كان يَستعملُ من ذلك أَصحابُ سقراط. والأَقاويل الخلقية هي التي تؤلَّف من لازمات الخلق، أَعني التي إِذا وجدت وجد ذلك الخلق. ولذلك قد يستعمل الخصم أَمثال هذه دلالة على خلق خصمه، كمثل ما يقول: إِنه عجول وغير متثبت، والدليل على ذلك أَنه يتكلم وهو يمشي، فإِن هذا يدل على الطيش وقلة الرزانة، وهو بخلاف قول القائل: أَما فلان فإِنه يتكلم عن رويَّة واختيار لأَنه إِنما يختار أَبداً الذي هو أَفضل إِما عند الرجل العاقل، وإِما عند الرجل الصالح؛ وذلك أَن العاقل يختار النافع، والصالح يختار الجميل.
قال: وإِذا لم يقع التصديق بالشيء فينبغي أَن يؤتى بالسبب النوجب لذلك الشيء، مثل ما قال فلان في فلانة، فإِنه قال أَنها كانت تحب أَخاها أَكثر من حبها زوجَها وبنيها، لأَن هؤلاء يستعادون إِن فقدوا، والأَخ لا يستعاد إِن فقد.
قال: ويجب إِن كان المتكلم استعمل الأَخذ بالوجوه وأَتى بالتصديق من التي من خارج أَن يُوبَّخ ويقال له: هذا من فعل من لا يفقه الكلام، ومن فعل من هو أَبهم بهيمة بالطبع.
قال: وينبغي أَن يخلط المقتص باقتصاصه بعض الأَقاويل الانفعالية التي هي لازمة ومشاكلة، وهي التي تؤلف من الأُمور الموجودة فيهم أَو فيمن يتصل بهم. وذلك أَن هذه الأُمور هي عندهم معروفة مألوفة، يعني أَن هذه الأُمور هي التي توجب المحبة والرحمة لمن وجدت فيه، كما قيل: إِن هذا هو العقل نفسه، ومعنى زائد على العقل وكما قال فلان في فلانة: إِنها إِلى حيث ما رفعت يديها بلغت، يريد، فيما أَحسب، من إِمكان الأَشياءِ لها وتيسرها عليها.
قال: وهذا يوجد كثيرا في شعر أُوميروش، كقوله في فلانة: إِن تلك العجوز حبست عندها الوجوه الحسان، يريد أَمثال هذه الأَقاويل الانفعالية التي توجب استغراباً للشيء وعجبا به. وهو موجود كثيرا في أَشعار العرب وخطبها، ومن أَحسن ما في هذا المعنى قول أَبي تمام:
فلو صَوّرت نفسك لم تَزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
فإِن هذا القول انفعالي جدا. وقريب من هذا قول أَبي نواس:
وليس على الله بمستنكر ... أَن يجمع العالم في واحد