قال: وقد يكون من الأَفعال ما يوجب الانفعال، وهي الأَفعال التي تصدر من أُناس هم بأَحوال توجب العطف عليهم مثل الذين يتكففون الدمع بأَيديهم من أَعينهم. فإِنهم إِذا أُبصروا بهذه الحال، أَشفق لهم وتعطف عليهم. ولذلك صار الخصم إِذا كان بهذه الحال يضلل الحاكم. وقد يدل على انتفاع الخصم بهذا الانفعال أَن هذه الحال قد تنفعه مع الجرم الذي هو به مقر فضلا مع ما هو له منكر.
قال: وكثيرا ما يحتاج المتكلم أَن يتكلف عمل الاقتصاص في بدء كلامه، وربما لم يحتج إِلى ذلك.
فأَما الكلام المشاوري فليس فيه اقتصاص أَلبتة، لأَنه ليس يكون اقتصاص فيما سيكون، وإِنما الاقتصاص فيما كان أَو هو كائن الآن. وإِنما تذكر الأُمور المتقدمة في المشورة على جهة البرهان، أَعني أَن يبين بها وجود الأُمور المستقبلة. ولذلك كلما كان المشير أَعرف بالأُمور السالفة الواقعة، كان أَحرى بحسن المشورة فيما هو كائن بأخَرة. فأَما المدح والذم فالأَمر فيه بخلاف هذا، أَعني أَنه تذكر فيه الأَشياء السالفة والحاضرة على جهة الاقتصاص. وليس في المشورة اقتصاص إِلا أَن يكون الخطيب ينتقل من المدح إِلى المشورة. ولكن إِذا كان الأَمر الذي يَعِدُ به مما لا يصدق بوقوعه، فينبغي له أَن يأتي بالعلة في الشيءِ الذي يَعِدُ بوقوعه، ثم بعد ذلك يتكلم في موجبات ذلك الواقع قال: وأَما التصديقات فينبغي أَن تكون أَقاويل تثبيتية. فإِن التثبيت أَمر خاص بالتصديقات في جميع أَنواع القول الخطبي. والأَشياء التي تكون فيها المنازعة في الخصومة، وهي التي يجب أَن يوقع بها التصديق، هي أَنحاء: أَحدها أَن الشيءَ كائن، وذلك إِذا مارى الخصم في كونه، أَعني أَن يجحده. ولذلك ما يجب على الشاكي أَن يأتي على كون ذلك الشيء بالبرهان، أَعني بالمثال. والنحو الثاني: هو في أَن الشيءَ ضار أَو ليس بضار، وذلك إِذا اعترف الخصم بأَنه قد كان ونازع في أَنه ضار. والثالث: أَنه عدل أَو ليس بعدل، وذلك إِذا اعترف بأَنه واقع وضار ونازع في كونه جوراً. والرابع: أَن يعترف الخصم أَنه ضار وغير عدل ولكن يدعي أَن خصمه كان السبب فيه بما تقدم من جوره عليه، مثل مَنْ يقر أَنه أَغضب إِنسانا، لكنه يزعم أَنه إِنما فعل ذلك لغضب متقدم كان منه، ففعل ذلك لينتصف منه. وهذا كأَنه راجع إِلى دعوى العدل. وإِذا اعترف الخصم بأَنه ضرر، ولكن خصمه كان السبب فيه، فبين أَن الخصومة حينئذ إِنما تكون في أَن خصمه كان السبب أَو لم يكن. وقد تكون الخصومة في هل يطلق لمن جير عليه أَن يجر بقدر ما جير عليه دون أَن يرفع ذلك إِلى الحاكم، كما يوجد الاختلاف في ذلك عند الفقهاء في ملتنا.
قال: والخصومة في مثل هذا هي نافعة للشاكي، ضارة للمجيب، أَعني إِذا اعترف المجيب أَنه جار وادعى أَن السبب فيه خصمه. وأَما في تلك الأخر، وبخاصة في أَن الأَمر لم يكن، فهي للمجيب أَنفع منها للشاكي.
قال: وأَما المنافرية فقد ينتفع فيها كثيرا باستعمال الشبيه والقول المثالي، أَعني في تبيين وجود تلك الأَفعال. وأَما في تلك الأَفعال جميلة أَو نافعة، فإِن الاستدلال على ذلك يكون من الأُمور أَنفسها، وقد يستدل في الأَقل على ذلك بالتمثيل، وهو الذي يعرفه أَرسطو بالبرهان في هذه الصناعة، وإِنما يحتاج في الأَكثر إِلى استعمال المثال إِذا كانت الأُمور غير مصدق بوجودها أَو كان هنالك علة تمنع التصديق بوجودها.
قال: وأَما القول المشاجري فالذي يستعمل فيه التثبيت إِنما يبين إِما أَن الأَمر لا يكون، وإِما أَنه سيكون، وإِما أَنه إِن كان، فليس عدلا أَو ليس مما ينتفع به، أَو ليس على هذه الصفة ينبغي أَن يكون.
قال: وقد ينبغي أَن يتفقد كذب المتكلم في المشوريات واستعماله الأُمور التي هي خارجة عن الأَمر أَكثر منها في سائر الأَنواع.