قال: والعلامات وإِن كانت كاذبة بالجزء، كما قيل، فقد يستعملها هذا الجزءُ من الخطابة كما تستعملها سائر الأَجزاءِ. والمثالات أَخص بالمشاورة وأَولى بها. وأَما الضمائر فهي أَخص بالخصومة، لأَن الإِشارة إِنما تكون بما هو آت. ولذلك يجب أَن يؤتى بالبرهان عليه مما قد كان، وهو المثال. وأَما الخصومة فإِنما تكون في أَن الشيءَ موجود أَو غير موجود، ولذلك يكون المثبت فيها من الأَشياءِ الضرورية التي تلزم ذلك الشيءَ، لأَن الذي قد كان، لازمه ضروري الوجود، أَي موجود بالفعل، لا ممكن الوجود. وأًَما الأُمور المستقبلة فلازمها مستقبل الوجود، فلذلك كانت المثالات أَخص بها من الضمائر.
قال: وليس ينبغي أَن يؤتى بمقدمات الضمائر على النسق الصناعي، بل ينبغي أَن يخلط بعضها ببعض، وإِلا أَضر بعضها بعضا. فأَما أَن يؤتى بها على الترتيب الصناعي وهو الترتيب الذي يظن أَنه قياسي، أَعني أَكثر من غيره، فليس ينبغي أَن يفعل ذلك في جميع الضمائر كما كان يفعله أُناس من المتفلسفين.
قال: وإِذا أَردت أَن تعمل قولا انفعاليا، فلا تعملن منه ضميراً تصديقياً.
فإِنك إِن فعلت ذلك، إِما أَن ترفع الانفعال الذي قصدت فعله، وإِما أَن يكون الضمير باطلا، لأَنك تصدم بعضها ببعض. وإِذا اجتمعا معا، فإِما أَن يفسد أَحدهما الآخر، وإِما أَن يوهنه.
وكذلك أَيضا إِذا أَثبت بالكلام الخلقي، فلا ينبغي أَن يأتي بالضمير والتثبيت معه، لأَنه ليس التثبيت مما يفعل في السامع اختيار الشيء كما تفعله الأَقاويل الخلقية.
ولكن ينبغي أَن يستعمل: أَما في الأَقاويل الخلقية فالأَقاويل الرأْيية، وأَما عند الاقتصاص فالأَقاويل التصديقية. فمثال الأَقاويل الخلقية قول القائل: إِنك عارف بهؤلاءِ فلا ينبغي أَن تصدقهم. ومثال الانفعالية قول القائل: إِن هؤلاء مظلومون فلا ينبغي أَن تضجر بهم. وأَما التصديقات فإِنما تكون في أَن هذا عدل أَو نافع.
قال: والإِشارة في الأَكثر أَصعبُ من الخصومة، من أَجل أَن المشورة تكون في المستقبل والخصومة في الماضي. وما كان في الماضي أَعرف مما يكون في المستقبل، ولذلك كان التكهن في الماضي أَسهل منه في المستقبل، كما قال فلان في فلان أَنه كان يتكهن في الماضي ولم يكن يتكهن في المستقبل، يريد فيما أَحسب الغض منه.
قال: والقول المثالي هو من الأُمور الظاهرة الحكم جدا ويسهل به وجدان البرهان على الشيءِ من قبله والتصديق به، وليس فيه محاورة كثيرة خارجة عن الشيءِ، كالذي يكون نحو الخصم من تخسيسه، أَو نحو نفسه من تفضيله، أَو في تصيير الحاكم إِلى الانفعال. اللهم إِلا أَن يروغ المتكلم به أَو يحيد عن الطريق، يريد لأَن هذه العلة كان أَخص بالمشورة.
قال: وينبغي للمتشكك في المقدمات المأخوذة من السنة أَن يفعل فيها ما كان يفعله سقراط مع الخطباء من أَهل أَثينية، فإِنه كان يذم لهم تلك المقدمات ذما يسيراً، يريد، فيما أَحسب، بالتأويل لها. فإِن التأويل ذم ما للقول.
قال: وأَما المنافريات فقد ينبغي أَن يستعمل فيها مدح الكلام التثبيتي، مثل ما كان يفعله سقراط في أَقاويله المدحية. فإِنه كان يدخل في أَثنائها مدح الكلام. وذلك مثل قول القائل: إِنه مَن مدَح فلانا فليس يعوزه مقال ولا تبقى له مقال. وإِذا كان هذا في مدح الإِنسان، فكيف في مدح الإِله.
والكلام التثبيتي إِذا استعمل فيه المدح كان تثبيتا وخلقيا معا، وإِن لم يكن هنالك قول خلقي، وذلك مثل قول القائل: بعد أَن يأتي بالتثبيت: إِن الكلام المحقق الصحيح لا يعقله إِلا ذوو الفضل والصلاح.
قال: والموبخات فهي أَنجح من المثبتات، يعني بالموبخات، التي تكون على طريق الخلف من المقدمات التي يعترف بها الخصم، وبالمثبتات الضمائر التي يأتي بها المتكلم في إِبطال قول الخصم من تلقائه.
قال: وإِنما كانت الموبخات أَنجح من الضمائر لأَنه معلوم أَن الموبخات تفضل غيرها من الأَقوال في الشيء الذي به الأَقوال قياسية، أَعني أَنها قياسية أَكثر من غيرها، إِلا أَنها إِنما تأتلف من المقدمات المتضادة. والمتضادة إِذا قرن بعضها ببعض كان أَحرى أَن يظهر الكذب الذي فيها.