للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال: والكلام الذي يوجهه نحو الخصوم ليس يكون من نوع آخر سوى نوع الأَقاويل التصديقية فمنها ما تكون المقاومة فيه بحسب قول الخصم، وهي المقاييس التي تأْتلف من المقدمات المتقابلة أَو التي قوتها قوة المتقابلة، وتسوق إِلى التوبيخ. ومنها ما تكون من الأَمر نفسه، وهي المقاييس المستقيمة.

قال: وقد ينبغي في المشورة والخصومة معا إِذا ابتدأَ المتكلم بالكلام أَن يذكر أَولاً التصديقات التي تثبت قوله ثم يقصد بعد ذلك لإِبطال المخالفات لقوله. هذا إِذا كانت المخالفات له يسيرة أَو قليلة الإِقناع، وأَما إِن كانت كثيرة أَو قوية الإِقناع، فإِن العمل كله هو في أَن يتقدم فينقض تلك الأَقاويل. فإِذا أَوهم بطلانها، أَتى بعد ذلك بالتثبيتات التي تخص قوله، وبالجملة: فينبغي للمتكلم الذي يريد أَن يتكلم بضد كلام قد تكلم به غيره أَن يوطئ لنفسه ويطرق لكلامه، ولا سيما إِذا كان الكلام الذي تكلم به الغير كلاما منجحا، أَي مقنعا. وذلك يكون بوجوه، مثل أَن يقول الخصم: إِنك معنى بالكلام ذو قدرة عليه. وإِنك تثبت كل ما تريد أَن تثبته، وتقنع في كل شيء أَنه واجب وأَنه عظيم وأَنه نافع ليعتقد في قولك أَنه صحيح ومحقق، وإِن لم يكن صحيحا عند الله ولا عند الحق نفسه. وربما استعمل في هذا ذم الكلام وذم المتكلم، مثل أَن يقول له: إِن كلامك محك وباطل وكلام رجل لا تورع عنده. وكأَن هذا الموضع الذي ذكره هو راجع إِلى ذم كلام الخصم إِما من جهة الباطن وإِما من جهة الظاهر. وذم الخصم نفسه أَو كلامه هو مقابل مدح المتكلم نفسه وكلامه. وإِنما تذكر هذه الأَشياء هاهنا من جهة الترتيب؛ وإِلا فقد تقدم الكلام فيها.

قال: وقد ينبغي أَن تغير الضمائر إِلى الأَقاويل الخلقية أَحيانا مثل أَن يقول الخطيب إِذا أَشار بالصلح والهدنة: لأَنه ينبغي للعقلاءِ أَن يصيروا إِلى الصلح والهدنة. وبالجملة فيجب على الخطيب أَن يتكلف من الضمائر أَقوى ما يمكن أَن يوجد في ذلك الشيء الذي يتكلم فيه. فإِنه مهما كانت الضمائر التي يأتي بها الخطيب أَنجح فهو أَحرى أَن يقبل قوله وأَن يظهر على خصومه، مثل أَن تكون الضمائر التي يأتي بها في قبول الصلح أَقوى من الضمائر التي يأتي بها خصمه في دفع الصلح والإِشارة بالحرب.

قال: فأَما السؤال فإِنما ينبغي أَن يستعمل في هذه الصناعة أَكثر من ذلك في مواضع: أَحدها: إِذا علم السائل أَن المجيب متى أَجاب بنعم أَو لا لزمه شيء واحد بعينه وهو الذي قصد المتكلم إِلزامه، مثل أَن يُسأَل أَلست قد أُخِذْتَ بقرب القتيل وبيدك سيف؟ فإِن قال: نعم، قيل: أَنت قتلته؛ وإِن قال: لا، قيل: فأَنت قتلته، فلذلك فررت.

والموضع الثاني: حيث يعلم إِنه إِن لم يجب بالشيء الذي سأَله فقد قال شنيعا، مثل قول القائل: أَلست تعلم أَن الإِتاوة جور. فإِنه إِن قال: لا، كان شنيعا؛ وإِن قال: نعم، قيل له: وأَنت تأخذ الإِتاوة، فأَنت جائر والموضع الثالث أَن تكون المقدمة التي يسأَله عنها ظاهرة الصدق، ولا يكون ما يلزم عنها ظاهرا عند المجيب. فإِنه في مثل هذا الموضع يجب على السائل أَن يقتصر على مقدمة واحدة فقط، ولا يسأَل عن المقدمة الثانية. مثل أَن يَسأَل سائل رجلا من النصارى: أَليس الآباء والأَبناء من جنسٍ واحد؟ فإِذا قال المجيب: نعم، قال: فعيسى إِذن ليس ابنا لله. فإِن هذه المقدمة يمكن أَن تخفي لظهورها، وبَعد لازمها، وهي خافية في الأَكثر أَعني في بادئ الرأي، على المجيب في هذا السؤال.

والموضع الرابع: حيث يعلم السائل أَنه إِن أَجاب بضد ما سأَله قدر على إِلزامه التشنيع. والفرق بين هذا وبين الثاني: أَن الشنيع هنالك كان ضد ما سأَله عنه، وهنا إِنما أَلزمه السائل الشنيع بقياس.

والموضع الخامس: إِذا كان الأَمر عند السؤال يضطره أَن يجيب بالمتناقضات معا فإِنه يلزمه التوبيخ الذي يفعله السوفسطائيون. مثل أَن يلزمه بالسؤال أَن يكون مجيبا في الشيء بنعم وبلا. فإِنه يشغب عليه حينئذ كما يفعل السوفسطائيون.

<<  <   >  >>