للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والموضع السادس: أَن يسأَل سؤالا يتضمن معاني كثيرة ويتشغب الجواب فيه على المجيب. فإِنه إِن أَجاب في ذلك بالمعنى الذي قصده السائل لزمه الأَمر. وإِن جعل يفصل تلك المعاني واحدا واحدا ويجيب فيها بجواب جواب، رأَى السامعون من العمة لضعفهم أَنه مريد وأَنه لذلك قد اضطرب جوابه، إِذا كانوا يرون أَن الصادق إِنما يجيب إِذا سأَل بجواب واحد لا بأَجوبة كثيرة، لأَن ذلك اضطراب وتشويش في الجواب.

قال: وأَما المجيب فقد ينبغي له في هذه الصناعة أَن ينكر إِنتاج الضمائر، إِذا لم يقدر على إِنكار المقدمات التي سئل عنها. وإِذا أَمكنه الإِنكار، فلا ينكر باللفظ المحتمل الذي يكون أَعم من ذلك الشيء الذي فيه المراء ولا أَخص. وينبغي له أَن يتقدم فيعلم المقدمات التي تفعل القياس على الشيء الذي يروم خصمه أَن يثبته عليه. وذلك مما يسهل علمه من الأَشياءِ التي قيلت في الثانية من طوبيقى. فإِن تلك الأَشياء إِما كلها وإِما بعضها هي مما يصلح في هذا الموضع وينتفع بها وإِن تم القياس عليه فينبغي له أَن يذكر أَن علة النتيجة هي غير العلة التي ذكرها الخصم، مثل أَنه إِذا أَنتج عليه أَنه أَخذ المال فيقول: نعم أَخذته لمكان الحفظ له، لا لمكان الغصب.

قال: والسائل فقد ينبغي أَلا يَسأَل عن المقدمات البعيدة ولا عن القريبة من النتيجة نفسها إِلا أَن تكون ظاهرة جدا، بل ينبغي أَن يسأَل عن المقدمات التي هي من النتيجة بحال وسط في القرب والبعد.

قال: ولأَن الأَقاويل التي تستعمل الهزء والسخرية لها غناء في المنازعات، فقد ينبغي أَن تدخل في المخاطبات التي فيها النزاع. ولذلك قال فلان: إِنه ينبغي أَن يفسد الجِد بضده أَي الهزل، ويفسد الهزل بضده أَي بالجد. وذلك صواب من قوله. وقد قيل في كتاب الشعر كم أَنواع الهزل. ومن أَنواع الهزل ما يليق بالكريم، وهو الهزل الذي لا يكمن فيه صاحبه على أَمر باطن وتعريض قبيح بل يكون ما يتكلم فيه بالهزل هو نفس الشيء الذي قصده، لا أَنه عرّض بذلك عن أَمر قبيح. ولذلك قيل: إِن المزَّاح يواجهك بالمزاح ويبدي لك ما في نفسه، وإِما المعرّض فهو الذي يخادعك ويوهمك أَنه يتكلم في شيء وهو يذهب في الهزل إِلى شيء آخر قبيح. فالمزَّاح أَشبه بالكريم لأَنه يصدق عن ذات نفسه، والمعرّض أَشبه باللئيم لأَنه يستعمل الخب والحقد.

قال: وبالجملة فالأَشياء التي منها يتقوم الكلام الخطبي ويتركب عنها هي أَربعة أَشياء: أَحدها أَن يثبت عند السامعين من نفسه الصحة ومن خصمه التهمة. والثاني تعظيم الشيء المتكلم فيه وتصغيره. والثالث الأَقاويل الانفعالية والخلقية. والرابع: الأَقاويل الموجهة نحو الشيء المتكلم فيه. وهذه الأَشياء كلها مشتركة لجميع أَجزاء الخطابة، أَعني الأَجزاء الثلاثة.

قال: ونحن فقد قلنا في المواضع التي منها تعمل هذه الأَشياء كلها. وبالجملة فقد وفينا بجميع المعاني التي وعدنا بذكرها في أَول هذا الكتاب. وكان ذكرنا لهذه الأَشياء أَما في أَول الأَمر فلكي يكون ما يتكلم فيه معلوما غير مجهول، كالحال في فعل الذين يريدون أَن يحسنوا التعليم، أَعني أَن يحضروا أَولاً الأَغراض والمعاني التي يريدون أَن يتكلموا فيها، ثم يتكلمون فيها. وأَما ذكرنا إِياها هاهنا وبأخرة فلكي يعلم أَنا قد وفينا بما كنا وعدنا في ذلك. وهذا هو مبلغ الخاتمة التي تخص المتكلم أَعني أَنه يعلم بأَنه قد وفى بما ذكر. وأَما الذي يخص السامعين فهو التذكير.

قال: والمثالات فينبغي أَن تكون بالجملة بحيث يفهم منها الشيء الذي أخذ المثال بدلا منه، ويفهم من ضدها ضده. وذلك إِنما يكون متى كان هذان الأَمران في المثال أَعرف منهما في الشيء الذي استعمل المثال بدله، أَعني أَن يكون أَعرف من الممثَّل، وضده أَعرف من ضد الممثَّل. فإِنه متى لم يكن المثال هكذا، كان إِما ليس يثبت شيئا وإِما أَن يثبت به ما قد ثبت، وذلك إِما بمثال آخر، وإِما لأَنه معروف بالطبع. وكذلك الحال في معرفة ضد الشيء، أَعني أَن منها ما يكون معروفا بنفسه، ومنها ما يكون معروفا بمثال.

قال: وأَما خواتم الخطب فينبغي أَن تكون منفصلة عن الخطبة غير مرتبطة بها ولا متصلة، بمنزلة الصدر ولكن تكون موجهة نحو الكلام الذي سلف، مثل قول القائل في الخطب المشاورية: هذا قولي فاسمعوا، والحكم إِليكم فاحكموا.

<<  <   >  >>