قال: ومن النافعات بذاتها الملكات الطبيعية التي يكون الإِنسان بها مستعدا لأَشياء حسنة مثل الذكاء والحفظ والتعلم وخفة الحركات، وكذلك الكمالات مثل العلوم والصنائع، وكذلك السير المحمودة. وهذه كلها مع أنه نافعة في غيرها هي خير في نفسها وإِن لم يتصل بها خير آخر، فهي خيرات منفردة بأنفسها مختارة لذاتها. والبر أيضا خير نافع.
قال: فهذه هي الخيرات التي يعترف بها ويجتمع على أنها خيرات ونافعات. ومتى بيَّن في شيء منها أنه خير فذلك بيان لا على طريق المراء والمغالطة المستعملة في هذه الصناعة. وأما إِذا بيّن في شيء من أضداد هذه أنها خير، وفيها أنها شر فذلك يكون في هذه الصناعة على طريق المراء، أعني بيانا سوفسطائيا. وذلك إِن الشر إِنما ينفع بالعرض، مثل إِن يبين خطيب لأَهل مدينةٍ ما إِن الجبن لهم خير لأَنهم إِن شجعوا، خرجوا عن المدينة، فنال منهم العدو. ولكن الجبن ليس لهم خيرا على الإِطلاق وإِنما كان خيرا بالإِضافة إِلى أهل المدينة الذين عرض لهم ذلك. وأما النافع في الأَكثر وبالذات للإِنسان فهو الخير، كما إِن الشر المضاد للخير هو نافع للأَعداءِ. وذلك إِن الجبن، لما كان شرا لأَهل المدينة بالذات، كان نافعا للأَعداءِ. والشجاعة لما كانت بالذات خيرا لهم كانت ضارة بالأَعداءِ. إِلا أنه قد يلحق ما هو شر ما للإِنسان إِن يكون ضارا لعدوه، وما هو خير ما له إِن يكون نافعا لعدوه، مثل الجبن لأَهل المدينة اللذين إِذا خرجوا عن المدينة لم يكن لهم قوة يقاومون بها عدوهم. فينبغي للخطيب إِن يتحرى في كل وقت النافع من هذه الأَشياء. وهذه القضية أيضا ليست كلية، أعني القائلة إِن كل ما يضر العدو ويكرهه نافع، وكل ما ينفع العدو ويسره ضار.
فإِن كثيرا ما يكون الأَمر الواحد ضارا للإِنسان وعدوه ونافعا للإِنسان وعدوه. فمثال ما هو نافع لكليهما ويسر به كل واحد منهما مفارقة العدو عدوه إِذا كانت بعد مقاتلة شديدة بينهما ومقاومة أشفى كل واحد منهما على العطب منها من غير إِن يظفر أحدهما بصاحبه. فإِنهما إِذا افترقا في أثر هذه الحال سُرَّ كل وَاحد منهما بالافتراق. ولذلك قد يكون النافع نافعا للأعداء أيضا. وأما ماهو ضار لكليهما فكثيرا ما يوجب صداقة العدو، وذلك إِذا كانا متساويين في نزول الشر الوارد بهما من غير إِن يفضل أحدهما في ذلك صاحبه. وكثير من الأُمم المختلفة كان اتفاقهم بهذا السبب. ولذلك قيل إِن الشر قد يجمع الناس. فهذا أيضا أحد ما يكون به الشر نافعا، أعني إِن يكون الضر النازل بالإِنسان نازلا بعدوه، فإِن ذلك يوجب صداقة العدو. وحينئذ يهوى العدو الوارد ضد ما يهواه كل واحد من المتعاديين الذين ورد عليهما العدو من خارج. وذلك إِن كل واحد من المتعاديين يهوى صداقة صاحبه لمكان تعاونهما على العدو الوارد عليهما من خارج. والعدو الوارد يهوى بقاء عداوتهما على حالها أو تأكدها. وأرسطو يقول: ولذلك كثيرا ما تنفق النفقات العظيمة وتفعل الأَفعال الكثيرة في مثل هذا الخير الذي يدفع به الشر العظيم. وإِنما تطيب النفس بالنفقات في مثل هذه الأَشياءِ لظهور ما يلزم عنها من الغاية المطلوبة وقربها حتى كأنها إِذا وجدت هذه الأَشياءُ وجدت الغاية. وقد يكون الشر المفرط النازل بالعدو أيضا سببا للاعتراف بالخير اليسير الذي ناله من عدوه، ولولاه لم يعترف به العدو. مثل ما حكي أرسطو أنه عرض لبعض الملوك الذين كانوا أعداء لليونانيين أنه اشتدت محاربتهم له وحصرهم إِياه سنين كثيرة وقتلوا في ذلك الحصار ابنه فسألهم إِن يعطوه جثته ليحرقها على عادتهم في موتاهم ففعلوا ذلك فشكرهم على ذلك وأظهر شكرهم عند جميع قومه وأهل مدينته. فلولا ما نزل به من الشر العظيم، لما شكرهم على هذا الشيءِ اليسيرالذي سمحوا له به، كما قال ذلك أُوميروش الشاعر.