قال: ومن الاصطناعات النافعة والأَفعال التي يعظم قدرها عند المصطَنَع إِليهم فيصير به المصطنع إِلى خير عظيم من المصطنع إِليهم إِن يختار الإِنسان إِنسانا عظيم القدر من جنس ما من الناس له أيضا عدو عظيم القدر في جنس آخر من الناس فيفعل بعدو ذلك الإِنسان الشر وبأصدقائه الخير، مثل ما عرض لأُوميروش مع اليونانيين وأعدائهم، فإِنه قصد إِلى عظيم من عظماء اليونانيين في القديم فخصه بالمدح وأصدقاءه من اليونانيين، وخص عدوا له عظيما بالهجو هو وقومه المعادين لليونانيين في حروب وقعت بينهما، فكان رب النعمة العظيمة بذلك عند اليونانيين وعظموه كل التعظيم حتى اعتقدوا فيه أنه كان رجلا إِلاهيا وأنه كان المعلم الأَول لجميع اليونانيين. وبالجملة: ففعْل الشر بالأَعداءِ والخير بالأَصدقاءِ من الأُمور النافعة، ومن شرط هذا الفعل الذي يعظم موقعه إِن موقعه إِن يكون ما فعل منه يرى أنه لم يمكن الفاعل ولا تيسر له غيره، وسواء كان الفعل كثيرا في نفسه أو يسيرا، وأن يظن إِن فعله له لم يكن لمكان خوف ولا شيء يرجوه، بل لأَن شوقه وهواه قاده إِلى ذلك. فإِن بهذا يكون الفعل مداوما عليه من الفاعل وهو السهل عليه. لأَن الأَفعال التي تكون من أجل خوف إِنما تكون غير شاقة زمانا يسيرا. وإِذا طال بها الزمان كانت شاقة فانقطعت. وإِذا انقطعت كان من ذلك عداوة من المصطنع إِليه للمصطنع. فلذلك يشترط في هذا الفعل إِن يكون سهلا على الفاعل. فهذه هي شروط الابتداءِ بالصنائع التي يعظم موقعها ويوجد نفعها.
وأما المكافأة التي لا يعظم موقعها فهي المكافأة التي لا تكون بحسب ما ما يهوى المكافئ بالطبع من أكثر الناس، وهو إِن تكون ناقصة عن الصنيعة التي أسديت إِليه: إِما في الكمية، وإِما في المنفعة، وإِما لأَنها قد فضلت عند المكافئ وليس يحتاج إِليها. وهي المكافأة التي يغالط فيها. وإِنما كان المكافئ بالطبع الذي يشتهي إِن تكون مكافأته بأحد هذه الثلاثة الأَحوال، لأَن المكافئ كأنه مقصور على الإِعطاءِ، فهو إِنما يشتهي: إِما ألا يلحقه نقص من الخير الذي وصل إِليه، وإِما إِن يكون النقص أقل من الخير الذي وصل إِليه. فإِذا لم تكن المكافأة بهذه الصفة، بل كانت مقارنة للصنيعة: إِما في الجنس مثل أَن تكون المكافأة على الدنانير بدراهم، وإِما في القوة مثل أن تكون المكافأة على المال بكرامة يقتنى بها مثل ذلك المال، فهي المكافأة العادلة لكنها سوقية. فإِذا لم تكن المكافأة لا سوقية ولا فيها غبن، بل كان المكافئ يعتقد فيه أنه ليس اختياره في المكافأة لما هو أنقص أكثر من اختياره لما هو أزيد، وسواء وقعت مكافئته بما هو أنقص أو بما هو مساوٍ أو بما هو شبيه، فهي المكافأة الجميلة. لأَن مكافأته بالأَنقص لم تكن منه باختيار لذلك، بل لأَنه لم يتسير له غير ذلك. فإِذا اتفق أن يكون مع هذا ذلك الفضل مما يسر به الأَصدقاء، أعني أصدقاء المكافئ بالفعل، ويسوء أعداءه، ويكون مع هذا متعجبا منه عند الجمهور، وذلك بالإِضافة إِلى من صدر عنه، كان عظيما موقعه من المصطنع إِليه، وبخاصة إِذا كانت الصنيعة مما توافق شهوة المصطنع إِليه، مثل أن يكافئ أو يبدأ محب الكرامة بالكرامة ومحب المال بالمال، ومحب الغلبة بالغلبة.
فإِن هذه الصنيعة ليست هي لذيذة فقط عند الذي تصطنع إِليه أو يكافئ بها، بل هي عنده فاضلة. وكذلك الأَمر في سائر أصناف الخيرات. وإِنما تكون أفعال الصنائع والمكافأة على المبتدئ والمكافئ أفعالا سهلة يمكن أن يداوموا عليها متى كانوا باستعدادهم الطبيعي مهيئين لتلك الأَفعال، وكانت قد حصلت لهم الملكة التي بها تصدر عنهم تلك الأَفعال. ومن الصنائع اليسيرة التي يظن بها أنها ليس تنقص المصطنع شيئا بالتأديب والموعظة.
قال: فمن هذه الوجوه يأخذ الخطيب المقدمات التي منها يقنع أن الشيءَ نافع أو غير نافع. ومن أجل أن الخطيب قد يعترف أحيانا بأن الأَمر نافع، ولكن يدعى أن هاهنا شيئا هو أنفع، فقد يحتاج أن يكون عنده مواضع يقدر أن يبين بها أن الأَمر أنفع وأفضل.