قال: والذي يحكم به الكل من الجمهور أو الأَكثر أو ذوو الأَلباب والأَخيار الصالحون أنه خير وأفضل، فهو أفضل بإِطلاق وفي نفسه، إِذا كان حكمهم في الأَشياءِ بحسب فطرهم وكانوا ذوي لب، لا بحسب ما استفادوه من الآراءِ من خارج. فإِن ذوي الأَلباب من الناس قد يقولون بفطرهم في الفضائل والخيرات ما هي، وكم هي، وعند أي شيء هي، وإِن كان ما يقفون عليه بفطرهم دون ما يوقف عليه من ذلك في العلوم. وما قيل في حد الخير من أنه الذي يتشوقه الكل، إِنما يراد بذلك الخير الذي يتشوقه الكل بحسب فطرهم الطبيعة، أعني اللبيبة. فإِن ما تتشوقه الفطر اللبيبة، بما هي فطر لبيبة، هو خير مطلق، أو خير أفضل من خير، مثل علمهم أن الشجاعة والأَدب والجلَد خيرات وتشوقهم إِياها. وأما الذي هو خير بالإِضافة إِلى إِنسان ما، مثل من يرى من الناس الفاضلين أنه أن يجار عليه أفضل من أن يجور هو، فإِن هذا الخير لا يدركه الناس بحسب طباعهم، وإِنما يرى هذا الرأي الذي هو من الناس في غاية العدل والفضل.
وأيضا ما كان من الخيرات معه لذة، فهو آثر مما ليس معه لذة. وما كان من الخيرات أكثر لذة، فهو آثر. وإِنما كان ذلك كذلك لأَن الكل من الجمهور يبتدرون إِلى اللذة ويطلبونها. وطلبهم اللذة هو من أجل اللذة نفسها، لا من أجل شيءٍ آخر غيرها. وما كان بهذه الصفة، أعني متشوقا للكل، فقد قيل أنه الخير والغاية. فاللذة إِذَنْ خير. والأَزيد لذة هي الملذات التي هي أبرأ من الأَذى والحزن وأدوم بقاء. واللذة الجميلة ألذ من اللذة القبيحة، لأَن الجميل مما قد يختار بذاته وإِن لم يكن لذيذا، وهو من الأَشياءِ التي يختار المرءُ أن يكون علة لكونه إِما لنفسه وإِما لصديقه. وبالجملة فكل ما كان من الأَشياءِ الملذة أفضل فهو ألذ مما هو أخس. وكل ما هو منها أطول مدة، فهو ألذ من التي هي منها أقصر مدة. وكل ما كان من الخيرات أثبت فينا، فهو ألذ مما هو أقل ثباتا. وذلك أن الصحة لما كانت أرسخ فينا من الجمال، كان وجود الصحة لنا ألذ من وجود الجمال. والأَشياءُ اللذيذة أو الأَكثر لذة إِنما السبب في وجودها لنا بهذه الصفة أحد أمرين: إِما طول اعتياد الشيء حتى يصير لنا الإِلتذاذ به من قبل العادة كالحال في اللذة الحاصلة عن العلم، وإِما من قبل أنها لذيذة جداً عندنا بالطبع والهوى. فالأَشياءُ إِذن إِنما تصير أكثر لذة إِما من قبل طول الزمان، وإِما من قبل الهوى والموافقة التي بالطبع. وجميع الأَشياء التي تلائم هوانا ملاءمة أكثر، فإِن منفعتها لنا إِنما تكون في رسوخها وثبوتها. وقد تؤخذ مقدمات الأنَفع والأَفضل من مواضع النظائر والتصاريف، وذلك أنه إِن كانت الشجاعة آثر من العفاف، فالرجل الشجاع آثر من الرجل العفيف.