قال: ويستبين أن الشيءَ الذي هو مبدأ ليس يلزم أن يكون أعظم من الشيءِ الذي هو له مبدأ، وذلك أن الإِرادة مبدأ الخير، ووفعل الخير أعظم من إِرادة الخير. وكذلك التعلم والعلم. وإِن كان ليس يمكن أن يكون الشيءُ النافع دون مبدأ. وإِذا كان شيئان مبدأين لشيئين، وأحد المبدأين أعظم من الثاني، فإِن الذي يكون عن المبدأ الأَعظم أعظم. وعكس هذا أيضا: وهو إِذا كان شيئان مبدأين لشيئين على أنهما فاعل، وأحدهما أعظم من الثاني، فإِن الذي هو مبدأ للأَعظم أعظم. وكذلك إِذا كان مبدأين على أنهما غاية، وإِذا قيس المبدأ الفاعل إِلى الغاية، أمكن أن يتوهم أن الفاعل أعظم من الغاية وذلك أن الفاعل هو الذي يفعل الغاية، ولولا هو لم توجد الغاية. وأمكن أن يتوهم أيضا أن الغاية أعظم من المبدأ، وذلك أنه لولا الغاية لكان الفاعل فضلا. فمثال ما تجعل الغاية فيه أعظم من الفاعل قول من يقول في الذم: إِن فلانا أولى بأن ينسب إِلى الجور في فعله كذا من فلان الذي أشار عليه بذلك، لأَنه لو لم يرد، لم يكن منه ذلك الفعل. إِذ لو لم يفعل هو ذلك الفعل، لم يقع ذلك الضرر. ومثال ما يجعل الفاعل فيه أعظم من الغاية قول القائل: فلان أحق بالشكر على هذا الفعل من فلان، لأَن فلانا هو الذي أشار عليه بذلك الفعل، ولولا إِشارته لم يكن ليفعل ذلك الفعل المحمود. وفي كلا الموضعين ما قبل الغاية إِنما يفعل لمكان الغاية.
وأيضا فإِن الذي وجوده أقل فهو أفضل، مثل الذهب والحديد. غير أنه إِن كان الذهب أقل وجودا من الحديد فليس هو أنفع. وأيضا مقابل هذا: وهو أن ما كثر وجوده فهو أفضل مما قل وجوده لكثرة منافعه. ومن هنا يقال: إِن الماءَ خير، لكثرة وجوده وعموم منافعه. وأيضا فإِن ما هو أعسر وجودا فهو أفضل، لأَن ما عسر وجوده قل وجوده، وما قل وجوده، فهو غريب ومتنافس فيه. ومقابل هذا: وهو أن ما سهل وجوده فهو أفضل، لأضنه يوجد في كل حين يتشوق إِليه. وأيضا الشيء الذي ضده أعظم، فهو أفضل. وأيضا الذي عدمه أشد ضررا فهو أنفع. وليس ينبغي أن يفهم هاهنا من الأَعظم والأَقل عظم المقايسة في الخير فقط، بل وفي الشر، وفيما هو لا خير ولا شر. وأيضا فإِن الغايات والأَشياءَ التي من أجلها تفعل الأَفعال، إِذا كانت الغايات بعضها أزيد خيراً من بعض، أو أزيد شرا من بعض، فإِن الأُمور المتقدمة لتلك الغايات الأَزيد هي أزيد. وأيضا فإِن ما كان من الملكات والفضائل، وبالجملة: الأَشياءُ الفاعلة أعظم، فإِن أفعالها الصادرة عنها تكون أعظم، لأَن نسبة الأَفعال إِلى مبادئها هي نسبة المبادئ بعضها إِلى بعض. فإِنه إِذا كان البضر آثر من الشم، فإِن الإِبصار آثر من الشم. وهكذا يوجد الأَمر في جميع الأَفعال مع أسبابها الفاعلة ليس فس الذاتية فقط، بل وفيما يعرض عن الشيء بالاتفاق. فإِن العظيم يكون الاتفاق الذي يعرض له عظيما. وفي الأَعراض الموجودة في الشيءِ، أعني أن الشيءَ الأَعظم، العرض الموجود فيه أعظم. وأيضا أن يحب الإِنسان صاحب المال أفضل من أن يحب المال، لأَن حب الإِنسان أفضل من حب المال. وأيضا فإِن الفضائل أفضل من ذوي الفضائل. والأَشياءُ التي شهوتها فاضلة أفضل من التي شهوتها غير فاضلة. مثال ذلك أن شهوة العلوم فاضلة وشهوة الأَكل والشرب غير فاضلة، فالعلوم أفضل من الأَكل والشرب. وأيضا عكس هذا: وهو أن ما هو أفضل، فشهوته أفضل، مثل أن الحكمة أفضل من النكاح، فشهوتها أفضل من شهوة النكاح. وأيضا فإِن العلوم التي هي أحسن وأفضل، فأفعالها خير وأفضل. مثال ذلك أنه لما كانت العلوم العلمية أفضل من العملية، كان فعلها الذي هو الصدق أفضل من التي فعلها العمل. وعكس هذا: وهو أن التي فعلها أفضل من العلوم، فهي أفضل؛ وذلك أن الوقوف على الحق لما كان أفضل من العمل، كانت الصنائع العلمية أفضل من العملية. وإِنما كان هذان الموضوعان متلازمين، لأَن نسبة الصناعة إِلى الصناعة هي نسبة فعلها إِلى فعلها.